من بين الأمور التي أعتبرها الأكثر قيمة في دراستي للتاريخ هو إدراكي لأهمية السياق. فقد أثّر هذا الفهم في طريقة تفكيري وتعاملي مع العالم من حولي، إذ وجدت أنّ غياب السياق يزيد من احتمالات سوء الفهم وسوء التواصل أضعافًا مضاعفة، سواء على المستوى الشخصي أو الأكاديمي أو الثقافي. وعندما يتعلّق الأمر بقراءة الكتاب المقدّس، فإنّ السياق ليس بأقل أهمية.
ومع ذلك في كثير من الأحيان، نقتطف آية كأنها زهرة أقحوان بينما نتجاهل حقل الزهور الذي تعيش فيه. نحن نقوم بتفسير آية لتعني معنى معين بدون فهم ما قد قيل قبلها أو بعدها. لك أن تتخيل الفوضى التي قد تنتج عندما يتنصت شخص ما لجملة واحدة من حوار مدته عشرين دقيقة و يصيغ رأي كامل عن المتحدث والموقف فقط اعتماداً على بيان خارج السياق. إذن، لماذا نفكر أنه باستطاعتنا عمل نفس الأمر مع النص الكتابي؟ إذا كنا نريد أن نتواصل مع كلمة الله بمسؤولية، علينا أن نهتم بقرائتها ضمن السياق وتفسيرها وتطبيقها وفقاً لذلك.
منشور اليوم سيكون الأول ضمن سلسلة قصيرة هنا في (An Iris Awaits)، حيث سننظر بقرب أكثر لبعض آيات الكتاب المقدس التي عادةً يتم أخذها من النص بدون السياق وبالتالي يتم إساءة تفسيرها. وما من نقطة انطلاق أفضل من ربما الآية الأكثر شيوعاً التي تُجرّد من سياقها: فيلبي 4: 13. هي من أول الآيات التي يحفظها الأطفال، يتم إلصاقها على كل المنشورات الرياضية، وتُقال في اجتماعات الفرق، وتُهمس كترنيمة، ويُعتمد عليها كحافز في مواجهة ما يتطلب مجهود بدني، وأمور أخرى. أنتم تعرفون الآية: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني".
عندما ننظر لهذه الآية بحد ذاتها، تبدو واضحة جداً. ما أعنيه أن "كل" تعني "كل"، أليس ذلك؟ حسناً، نعم ولا. أفكر أننا جميعاً نتفق أن الشخص الذي يرتكب الاحتيال، القتل، أو أي عدد آخر من الخطايا سيكون اقتباسه لهذه الآية لنفسه غير صحيح للتحفيز على فعل مثل هذه المخططات. إذن، إن لم يكن بولس يصدر بيان شامل عن إعطاء الله القوة لنا لفعل أي شيء نريده، إذن عما كان يتحدث؟ أي تخمينات حول كيفية اكتشاف ذلك؟ إذا قلتم، "أنظر إلى السياق!" إذن ستكونون على حق! من المهم أن نتذكر بأن بولس لم يصدر هذا البيان في فراغ. في الواقع، تأتي رسالة فيلبي 4: 13 في قلب مقطع يتحدث فيه بولس عن أمرين محدّدين: الامتنان للعطاء والرضا.
وفي نهاية رسالته لأهل فيلبي، يبدأ هذا المقطع بتعبير بولس عن فرحه بالطريقة التي عبّر بها المؤمنون في فيلبي — وهم جزء من عائلة بولس في المسيح — عن محبتهم من خلال تلبية احتياجاته المادية. دعونا نلقي نظرة:
"ثُمَّ إنّي فرِحتُ بالرَّبِّ جِدًّا لأنَّكُمُ الآنَ قد أزهَرَ أيضًا مَرَّةً اعتِناؤُكُمْ بي الّذي كنتُم تعتَنونَهُ، ولكن لم تكُنْ لكُمْ فُرصَةٌ. ليس أنّي أقولُ مِنْ جِهَةِ احتياجٍ، فإنّي قد تعَلَّمتُ أنْ أكونَ مُكتَفيًا بما أنا فيهِ. أعرِفُ أنْ أتَّضِعَ وأعرِفُ أيضًا أنْ أستَفضِلَ. في كُلِّ شَيءٍ وفي جميعِ الأشياءِ قد تدَرَّبتُ أنْ أشبَعَ وأنْ أجوعَ، وأنْ أستَفضِلَ وأنْ أنقُصَ. أستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ في المَسيحِ الّذي يُقَوّيني. غَيرَ أنَّكُمْ فعَلتُمْ حَسَنًا إذ اشتَرَكتُمْ في ضيقَتي. وأنتُمْ أيضًا تعلَمونَ أيُّها الفيلِبّيّونَ أنَّهُ في بَداءَةِ الإنجيلِ، لَمّا خرجتُ مِنْ مَكِدونيَّةَ، لم تُشارِكني كنيسَةٌ واحِدَةٌ في حِسابِ العَطاءِ والأخذِ إلّا أنتُمْ وحدَكُمْ. فإنَّكُمْ في تسالونيكي أيضًا أرسَلتُمْ إلَيَّ مَرَّةً ومَرَّتَينِ لحاجَتي. ليس أنّي أطلُبُ العَطيَّةَ، بل أطلُبُ الثَّمَرَ المُتَكاثِرَ لحِسابِكُمْ. ولكني قد استَوْفَيتُ كُلَّ شَيءٍ واستَفضَلتُ. قد امتَلأتُ إذ قَبِلتُ مِنْ أبَفرودِتُسَ الأشياءَ الّتي مِنْ عِندِكُمْ، نَسيمَ رائحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبيحَةً مَقبولَةً مَرضيَّةً عِندَ اللهِ. فيَملأُ إلهي كُلَّ احتياجِكُمْ بحَسَبِ غِناهُ في المَجدِ في المَسيحِ يَسوعَ. ولِلهِ وأبينا المَجدُ إلَى دَهرِ الدّاهِرينَ. آمينَ." (فيلبي 4: 10-20).
إذن بعد الإشارة للطريقة الأخيرة التي استخدم الله فيها أهل فيلبي لتوفير احتياجاته، ينظر بولس للوراء ويشارك من خبرة شخصية كيف استخدم الله كل أنواع المواقف لتعليمه كيف يكون راضياً "في كل شيء وفي جميع الأشياء". بغض النظر عما إذا كان قد واجه الاحتياج أو التمتع بالحصول على أكثر مما يحتاجه، قد تعلم أن يكون راضياً. وفي هذا السياق يشارك بولس: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني." بكلمات أخرى، لقد كان قادراً "أن يتضع" بالنعمة مثلما كان قادراً أن يستمتع بالوفرة بنفس السلوك بسبب قوة المسيح.
الترجمة الدولية الجديدة في اللغة الانجليزية، ترجمة وظيفية وليست حرفية، تترجم الآية بهذه الطريقة (التي اعتقد أنها تعبر بشكل أفضل عن قصد بولس الأصلي): "أستطيع فعل كل هذا من خلاله الذي يعطيني القوة". والترجمة العربية المبسّطة تترجم هذه الآية بأسلوب واضح أيضاً: "أسْتَطِيعُ أنْ أُواجِهَ كُلَّ الظُّرُوفِ بِالمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي." عندما ننظر إلى فيلبي 4، نستطيع أن نرى أنه عندما يقول "الكل"، هو يتحدث عن كل أنواع الظروف، ليس كل أنواع المهام، ليس كل أنواع المواقف، ليس كل أنواع المساعي. لقد كان قادراً أن يكون راضياً "في كل الأشياء" لأن المسيح أعطاه القوة لذلك—و أنا أعتقد أننا جميعاً نستطيع الموافقة على أن القناعة في أي ظرف وكل ظرف يتطلب قوة تفوق قوتنا.
وبالطبع، نحن نعلم أن الله هو من يمنحنا القوة للقيام بعدد لا يُحصى من الأمور، حتى تلك التي قد تبدو صغيرة أو ذات غير أهمية في منظور الأبدية. فكل نَفَس نتنفسه، وكل قدرة على تحريك عضلة، وكل طاقة على التفكير والعقل، وكل ذرة من القوت الجسدي والروحي، جميعها تأتي منه. وعندما نفتقر إلى القوة في أي جانب من جوانب حياتنا، فمن الصواب أن نأتي إلى عرش نعمته ونسأله أن يمنحنا القوة. والنظر إلى رسالة فيلبي 4:13 في سياقها لا ينفي أياً من هذه الحقائق.
ومع أن ما نملكه من قوة جسدية (كالقوة على الجري أو رفع الأثقال)، وقوة ذهنية (كالقدرة على اجتياز امتحان أو تعلّم لغة)، وقوة عاطفية (كالمحبة أو مقاومة الحسد والغضب)، كلّها نعم من الله، إلا أنّ هذه الأمور ليست هي محور رسالة فيلبي 4: 13. ففي هذه الآية، بولس يتكلم عن قوة عميقة داخلية التي من خلالها استطاع أن يعيش بقناعة برغم ظروفه. ومع أنه كان يتحدث عن تجربته الشخصية، إلا أن المبدأ الذي يطرحه، وهو أن قوة الله كافية لتمكين الإنسان بالقناعة والرضا، ينطبق علينا أيضاً. فمهما واجهنا من أفراح أو آلام، سواء كنا في شبع أو جوع، في ستر أو عوز، يمكننا أن نحيا في رضا في كل حال بفضل المسيح الذي يقوّينا. مجداً لله على هذه العطية الفائقة للطبيعة!
كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ليلى عطالله. تعديل من قبل حنين باشا.
.This post was first published in 2022. To see the original English version, click here
هذا المنشور تم نشره أولا في 2022. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.

No comments:
Post a Comment