مثلما يتم دائما الإشارة إلى لوقا الاصحاح الثاني في كل وعظ حول وقت الميلاد، فإن روايات الأناجيل عن الأيام المحيطة بموت يسوع وقيامته تأخذ اهتمام أكثر خلال فترة الفصح. يعظ القساوسة عن العشاء الأخير، عن محاكمة بيلاطس ليسوع، عن الصلب، وعن القيامة المنتصرة لمخلصنا، ولكن خلال الأيام الأخيرة ليسوع هناك خيط لا يتم التأكيد عليه، ولكنه يستحق انتباهنا. انه خيط لطالما لاحظته وشد انتباهي لأنه تذكير صارخ بالفجوة الواسعة الموجودة بين كمال الله ونقصي أنا.
أنا من النوع الذي يحصل على درجات عالية جداً في الفئة "C" (أي "الدقة" أو "الانضباط") في اختبار الشخصية المعروف بـ "DISC"، وهذا يعني أنني أهتم بأدق التفاصيل، ليس فقط بإيجاد الأجوبة، ولكن الصحيحة منها، وأيضاً أرفض الجهل فيّ وفي الأخرين. هل تريد أن تجعلني غاضبة جداً؟ ضعني بموقف يمكنني فيه سماع شخص يسأل سؤال، أعرف الجواب الصحيح عليه أو الأسوأ سماع شخص يجيب بطريقة خاطئة عليه وليس بمقدوري إعطاء الإجابة الصحيحة. خاصة إذا تصرف الأشخاص بطريقة مبنية على معلومات غير صحيحة يمكن أن تضرهم، مثلاً عدم لحاق شخص بالحافلة لأنه اعتقد أن الحافلة تصل الساعة 1:30 بدل الساعة 1:00.
لا تفهموني بطريقة خاطئة، هذه النزعة بالشخصية هي عطية من الله ولا تنقص مني، بل الطبيعة الخاطئة التي ولدت بها هي التي تفعل. هذه الطبيعة الخاطئة هي التي تجعل هذه الخصلة من شخصيتي تتحول لصنع الشر. يمكن لهذه الصفة أن تغذي كبريائي عندما اهتم بكوني على صواب أكثر من أي شيء آخر. تجعلني دفاعية عندما يظن الاخرين انني أخطأت بغض النظر سواء أني أخطأت بالفعل أم لا. وتجعل من الصعب عليّ أن أُظهر ثمار الروح القدس، خاصة في الجزء الذي نطلق عليه ضبط النفس.
بهذا أرى كمال يسوع يضيء بسطوع في الوقت الذي يحيط بموته. اللمحة الأولى لضبط النفس نجدها خلال الوقت الذي تم القبض فيه عليه في بستان جثسيماني. وبَّخ واحد من تلاميذه (محتمل أنه بطرس) لقطعه أذن الرجل في محاولة للدفاع عنه، وسأله سؤالاً استنكارياً " أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟” (متى 26: 53). بمعرفته بيسوع، علم بطرس الجواب، بالطبع يستطيع أن يطلب من الله أن ينقذه مما على وشك أن يحدث. ولكن يسوع فعل ذلك ليثبت لبطرس أن هذا الأمر لم يكن جزء من الخطة. كان لديه ضبط النفس ليستسلم لإرادة الآب بدل أن يستخدم قوته ليدافع عن نفسه.
سرعان ما تم القاء القبض عليه واحضاره أمام رئيس الكهنة وباقي المجمع، اتُّهم بشهادة زور بالتجديف." فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا.؟" (متى 26: 62، 63). لقد بقي صامتاً. لم يتم اتهامه فقط، بل تم اتهامه زوراً. ولم يكن اتهام بخطية صغيرة مثل السرقة أو الكذب، بل كان اتهام بالتجديف. الله نفسه اتُهم بانتهاك ضد الله.
كمثال بسيط توضيحي: أنا أقدّر والديّ من أعماق قلبي، لو تم اتهامي من بعض أشخاص بأني لا أحب والديّ، أو أني لا أنتمي إليهما، أو أكرههما، بالطبع، سأُصرّ على أن هؤلاء الأشخاص مخطئون، وربما سأُسارع إلى تقديم الأدلة التي تُثبت أنهم على خطأ، وأن افتراضاتهم غير منطقية إطلاقاً. ولكن يسوع لم يفعل ذلك. وما جعل صمته مدهش أكثر أنه كان بإمكانه تبرير نفسه إذا تكلم.
هو الإله أرجوكم! هو كامل وقدوس. لم يكن هناك أي أساس لهذه الاتهامات التي كانت ضده. لم يكن هو الطرف المخطئ الذي يحاول أن يجد أعذاراً ليدافع عن تصرفاته للذين يحاكمونه. لا، فإنه كان بالحقيقة بريء وكان بعيد كل البعد عن الخطية التي أُتّهم بها، فحياته كانت تشهد بعكس هذه الاتهامات تماماً. ورغم ذلك بقي صامتاً. لم يدافع عن نفسه. يا له من ضبط نفس!
ولكن رئيس الكهنة لم يتقبل سكوته. وأصرّ أخيراً "فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟»"(متى 26: 63). بعد كل تلك الاتهامات الخاطئة، فُتح الباب الآن على مصراعيه أمام يسوع ليقدم أدلته بكل وضوح. لقد أُعطي فرصة على طبق من ذهب ليقدم للجميع المعلومات الصحيحة. ولكن لم يفعل، لم يدافع عن نفسه. وبدلاً من ذلك أعطى رداً مبهم، لكنه كان كافياً على الأقل لكي يفهم رئيس الكهنة أن يسوع كان يدّعي شيئًا لم يكن الكهنة يؤمنون به عنه. وعليه، انضم الكهنة إلى شهود الزور في اتهام يسوع بالتجديف، وبدأ البصق والضرب.
لم يكن التعنيف الجسدي فقط ما كان على يسوع مواجهته. لقد سخروا منه لأنه ادّعى أنه الله." وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ، قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟»" (متى 26: 67 و68). وأنا أقرأ هذا، كل ما في داخلي يريد أن يقول، "حسناً، تريد أن تعرف من الذي ضربني؟ سوف أخبرك. إنه يوشيا البنّاء ابن لاوي وأليصابات من قرية في شمال القدس". وأُكمل وأُخبر الجميع بكل ما فعله ذلك الرجل لأثبت للجميع كم كانوا مخطئين ولأُثبت لهم أنه الله. ولكن كان يتحلى بقوة أكثر لضبط النفس.
بدلاً من ذلك، تقبَّل الضرب والسخرية وتحمل كل ذلك مرة أخرى أمام بيلاطس، الحاكم الروماني. مزيد من الاتهامات، مزيد من الضرب، مزيد من السخرية. ولكنه بقي بدون دفاع وأكمل طريقه إلى الجبل الذي سوف يصلب عليه. وكأنه لم يكتفِ من المعاناة، استمر الناس بالسخرية منه وهو يُرفع على الصليب " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ! " (متى 27: 40). بالطبع كان بإمكانه أن ينزل عن الصليب. كان بإمكانه إنهاء كل شيء بأي لحظة يختارها. وكان سيكون لديه كافة التبريرات لذلك. كان يواجه أعظم ظلم في تاريخ الكون وهو الوحيد البار، الإنسان الكامل كلياً يُعامل كأنه أسوأ المجرمين.
ولكن، وبدلاً من أن ينزل عن الصليب، وبدلاً من أن يدافع عن اسمه، وبدلاً من أن يمحو الجهل الذي كان يحيط به ويترك كل من حوله دون أدنى شك في من يكون، امتلك ضبط النفس الكافي ليصمد حتى النهاية، حتى يتمم الخطة التي وضعها منذ بداية الزمن، كما يجب لها أن تكون. كل الألم الجسدي، كل الألم العاطفي، كل الألم الروحي، وكل العذاب الذي كان من شأنه أن يدفع أيّاً منّا إلى حافة الانهيار والرغبة في تصحيح كل شيء فوراً – لكن لا شيء من هذا مساوياً لقدرته على ضبط النفس.
في الحقيقة، لا ينبغي أن نتفاجأ من ذلك. فثمر الروح القدس يأتي من الروح القدس نفسه (أي من الله)، من جوهر طبيعته الإلهية. وغالباً نربط ثمار الروح القدس بطبيعة الله الصالح، المُحب، ومصدر السلام، لكننا لا نفكر كثيراً في ضبط النفس. ومع ذلك، نرى في هذه المرحلة من حياة يسوع تجلياً واضحاً لعنصر ضبط النفس كجزء من طبيعة الله. ومن خلال إظهاره لهذا الانضباط العجيب، يرينا يسوع مرة أخرى صورة الحياة التي يجب أن يحياها من يسلك على مثاله.
لم يطلب منا أن ندير الخد الآخر أو أن نصبر عندما يكرهنا الآخرون أو يهينوننا بسبب اتباعنا له، دون أن يُرينا كيف نفعل ذلك. بل أرانا بنفسه الطريق. ومن خلال ضبط النفس الذي أظهره في التمسك بالخطة الإلهية، جعل من الممكن لنا أن نصبح أكثر شبهاً به. لأنه بدون موته نيابة عنا، كنا سنظل عالقين في حياتنا البعيدة عن الله، دون أي رجاء في أن نكون يوماً ما أبرار بما يكفي لنقف أمام الله. ولكن بفضل مخلّصنا المملوء بضبط النفس، يمكننا أن نتحرر من تلك القيود المظلمة التي تبعدنا عن الله.
إن لم تكن قد أدركت من قبل مدى اليأس الذي يكتنف الطبيعة البشرية الخاطئة، ومدى الرجاء القوي والثابت الذي لنا من خلال حياة يسوع الكاملة وموته الاستثنائي وقيامته المجيدة، فإنني أصلي أن تأخذ القليل من الوقت لتقرأ واحد من الأناجيل في الكتاب المقدس (متى، مرقس، لوقا أو يوحنا). وإذا لديك أسئلة فإنني سأكون سعيدة للتكلم معك عنهم. ربما لا أمتلك كافة الأجوبة، ولكن سأسعى للحصول عليهم معك.
وإذا كنت رجعت عن خطاياك وتعتمد على يسوع لتعيش حياة جديدة مع الله. أصلي أن تأخذ الوقت لتتأمل ذبيحة ضبط النفس التي قدمها يسوع لك وتقدم التسبيح له لأنه، بكل تأكيد، يستحق كل تسبيح.
كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.
This post was first published in 2021. To see the original English version, click here.
هذا المنشور تم نشره أولا في 2021. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.
