Wednesday, September 24, 2025

العيش بسلام بينما نعيش بحرب ، الجزء 2

في المنشور السابق، شاركت التشجيع الذي وجدته بسفر دانيال بينما نعيش في وقت الحرب المدمرة في الشرق الأوسط. على الرغم من أن دانيال كان مثّقل في الأمور التي كشفها الله له عن كمية دمار هائلة سوف تحصل، حتى أصبح مريض بالجسد، إلا أنه تقوى بالله وتمكن من مواصلة مسؤولياته اليومية. استطاع أن ينعم بالسلام بالرغم من معرفته بالمعاناة الهائلة، بفضل نعمة الله التي أعطته قوة التحمل.

ولكن ماذا يعني أن تكون بالحقيقة في سلام؟ خلال هذه السلسلة من الحروب الطويلة الممتدة لعقود من الزمن والتي طالت الأراضي المقدسة، نحن نصلي لسلام عادل وليس فقط للحرب أن تنتهي، بل لتنتهِ بطريقة تكون فيه الظروف مناسبة للحرية وتكافؤ الفرص والازدهار الإنساني لجميع شعوب هذه المنطقة. وبينما كنت أقرأ كتاب يبدو أنه لا يمت للموضوع بصلة بضعة أسابيع سابقة، لفت نظري بشكل عميق جملة عن السلام.

في كتاب الأمومة التبشيرية (Missional Motherhood)، تقول الكاتبة غلوريا فيرمان (والتي تعيش بالشرق الأوسط):

"بالزمن الحالي، عندما تسمع آذاننا كلمة السلام، نفكر بغياب الصراع، ولكن كلمة سلام بالعبرية تشير إلى وجود الكمال والشمولية" (1). يا له من مفهوم مدهش. وبالفعل، وخلال الأسابيع الماضية منذ أن قرأت تلك العبارة لأول مرة، لفت الله انتباهي إلى الفكرة ذاتها من مصادر متعددة أخرى، ليؤكد لي أنها أمر يجدر بي أن أوليه اهتمام خاص.

غلوريا فورمان مُحقّة؛ فنحن عادةً نفكّر في السلام باعتباره نقيض الحرب، أو ربما حالة من الهدوء والسكينة، فمثلاً نقول: "يا لها من ليلة هادئة وسالمة." لكن ماذا لو نظرنا إلى "نقيض الحرب" أو "حالة الهدوء" على أنها في الحقيقة حالة من الكمال والشمولية؟ إن الأمر يبدو منطقياً عندما نتوقف قليلًا للتفكير فيه. فهذه الحرب قد صنعت عكس الكمال تماماً. لقد أدت إلى دمار كامل في البيوت والأراضي والبنية التحتية والمجتمعات والعائلات والأجساد والعقول. وعندما نقول إننا نصلّي من أجل السلام، ألسنا في الحقيقة نصلّي من أجل أن يُستعاد كمال كل هذه الأمور؟

(وبالطبع، هناك أشياء أخذتها هذه الحرب ولا يمكن أن تعود إلينا في هذه الحياة، مثل إخوتنا وأخواتنا الأحبّاء في الإيمان. لكننا نثق أنه بينما تحطّمت أجسادهم الأرضية، فإن أرواحهم حيّة ومزدهرة مع الرب، ونصلّي أن تُشفى القلوب المكسورة لأولئك الذين بقوا، بنعمة الله).

وعلى صعيد أعمق، هناك إحساس بأن نقيض الكمال ليس مجرد نتيجة للحرب، بل هو الحالة السابقة التي نشأ منها هذا الصراع الدموي الذي دام عقوداً. هناك أولئك الذين يسعون إلى الرضا في امتلاك الأرض، وأولئك الذين يسعون إلى ملء فجوة الحزن الهائلة من خلال الانتقام، وأولئك الذين تدفعهم احتياجاتهم الجسدية والقيود المفروضة عليهم إلى اليأس والعنف، وأولئك الذين يجدون هويتهم في كراهية "الآخر". في كل حالة، سواء أدركوا ذلك أم لا، يحاول الناس ملء فراغ في حياتهم. يحاولون جعل أنفسهم كاملين، ولكن لأنهم لا يفهمون طبيعة حاجتهم ومصدر الحل، ينتهي بهم الأمر إلى خلق سلام أقل بدلاً من تحقيقه.

في أيام يهوذا القديمة، الله وبخ قادة المملكة الجنوبية من خلال النبي إرميا: ”مِنَ النَّبِيِّ إِلَى الْكَاهِنِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِالْكَذِبِ. وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ، قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ. وَلاَ سَلاَمَ" (إرميا 8: 10 - 11). قادة اليهود الدينيين نظروا إلى الكسر الذي بالشعب وتجاهلوه كأنه لا شيء. ادّعوا الكمال بينما لم يوجد. يا له من خطأ كبير اقترفوه. في الحقيقة الشعب عبّر عن جرحه بترك الرب إلههم: "وَصَارَ لِهذَا الشَّعْبِ قَلْبٌ عَاصٍ وَمُتَمَرِّدٌ. عَصَوْا وَمَضَوْا. (..) أَنَّهُ وُجِدَ فِي شَعْبِي أَشْرَارٌ يَرْصُدُونَ كَمُنْحَنٍ مِنَ الْقَانِصِينَ، يَنْصِبُونَ أَشْرَاكًا يُمْسِكُونَ النَّاسَ. مِثْلَ قَفَصٍ مَلآنٍ طُيُورًا هكَذَا بُيُوتُهُمْ مَلآنَةٌ مَكْرًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ عَظُمُوا وَاسْتَغْنَوْا سَمِنُوا. لَمَعُوا. أَيْضًا تَجَاوَزُوا فِي أُمُورِ الشَّرِّ. لَمْ يَقْضُوا فِي الدَّعْوَى، دَعْوَى الْيَتِيمِ. وَقَدْ نَجَحُوا. وَبِحَقِّ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَقْضُوا. أَفَلأَجْلِ هذِهِ لاَ أُعَاقِبُ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَوَلاَ تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهذِهِ؟" (إرميا 5: 23، 26 - 28).

وقبل ذلك، أشار الرب لنفس الجرح في المملكة الشمالية لإسرائيل، من خلال النبي إشعياء: "أَرْجُلُهُمْ إِلَى الشَّرِّ تَجْرِي، وَتُسْرِعُ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ الزَّكِيِّ. أَفْكَارُهُمْ أَفْكَارُ إِثْمٍ. فِي طُرُقِهِمِ اغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. طَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَيْسَ فِي مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ. جَعَلُوا لأَنْفُسِهِمْ سُبُلًا مُعْوَجَّةً. كُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِيهَا لاَ يَعْرِفُ سَلاَمًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ابْتَعَدَ الْحَقُّ عَنَّا، وَلَمْ يُدْرِكْنَا الْعَدْلُ. نَنْتَظِرُ نُورًا فَإِذَا ظَلاَمٌ. ضِيَاءً فَنَسِيرُ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ." (إشعياء 59: 7 - 9)

نحن نميل إلى الاعتقاد بأن العدالة يجب أن تسود حتى يسود السلام، ولكننا نرى من هذه الآيات أن العدالة والصلاح والنور غائبين عندما لا يكون السلام (أي الكمال) موجوداً. ولكن القدرة الأعظم للعدالة والحق موجودة بشخص واحد – شخص كامل. وهنا تكمن مشكلتنا. لأننا في الحقيقة عاجزون من دون المسيح. صحيح أننا نملك نعم كثيرة من الله مثل الحياة، الصحة، والقدرات، لكنها لا تكفي لنحقق الغاية من وجودنا، وهي أن نكون في علاقة صحيحة مع خالقنا ونمجّد اسمه في الأرض. هذا لا يحدث إلا إذا شُفيت جراحنا، واستبدلنا القلب القاسي بقلباً جديداً، وقبلنا المصالحة التي صارت ممكنة لنا من خلال حياة يسوع البارة، وموته على الصليب، وقيامته المنتصرة. بهذا تصبح خطايانا مغفورة وبر المسيح يمكن أن يُنسب إلينا.

وكما تكلم الروح القدس من خلال بولس: "أَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الملء وأن يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ." (كولوسي 1: 19 - 20). 

يسوع هو من صالحنا مع الرب. وفيما يتعلق بموضوع السلام، نرى أن المسيح لم يحل المشكلة بيننا وبين الرب فقط، بل بمعنى أعمق استرجع حالة الكمال بعلاقتنا مع الرب. لم تعد علاقتنا مشوهة بالتمرد والكبرياء والبر الذاتي. لم نعد مفصولين عن خالقنا القدوس بسبب خطيتنا. يسوع استبدل خرقنا (ملابسنا) الملوثة بثياب النقاء (أنظر إشعياء 64: 6، إشعياء 61: 10، كورنثوس الثانية 5: 21)، يسوع أخذ قلب الحجر وأعطانا قلب من لحم (حزقيال 36: 26)، يسوع أحيانا من الموت لحياة أفضل (يوحنا 5: 24، 10: 10)

يسوع أيضاً استرجع كمال علاقتنا المشوهة مع بعضنا البعض أيضاً. كما قال الروح القدس من خلال بولس: لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ. فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. (أفسس 2: 14 - 18).

بالتحديد نتكلم عن اليهود والأمم، يشرح بولس أن يسوع جعل من الممكن أن تُستعاد العلاقة المليئة بالكراهية بين هاتين الجماعتين بشكل كامل، بحيث لا يبقى فقط عدم عداوة، بل أيضاً لا يبقى انقسام. لم يعد هناك جماعتان منفصلتان، بل أصبحوا جسداً واحداً موحّداً، عائلة افتداها المسيح بدمه. وحده يسوع، بقوة الروح القدس، قادر أن يُحدث مثل هذا التغيير العميق لمجد الله الآب!

يجب علينا أن ندرك احتياجنا ونقبل الحل، لأنه إلى أن نقبل عطية السلام من الرب من خلال يسوع، سوف نظل نصنع ونعيش حروب. لكن عندما "يَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ" (كولوسي 3: 15) سوف نتوقف عن التصرف بدافع جراحنا وانكسارنا. وعندما نتمسك بالكمال الذي يمنحنا إياه، نتوقف عن محاولة كسب الممتلكات الأرضية لأنفسنا، ونتوقف عن ظلم من يقف في طريقنا، ونتوقف عن ردّ العنف ضد من يظلموننا. عندها سوف نسلك بالكمال مقدمين الغفران والرحمة للآخرين. عندها سوف نعيش بقوة الروح القدس – نعيش بسلام في وقت الحرب.

لا يمكنني أن أفكر بخاتمة أفضل من أن أترككم مع الصلاة التالية من تسالونيكي الثانية 3: 16 "وَرَبُّ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمُ السَّلاَمَ دَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ." آمين.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2024. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2024. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Rose Creger Tankard :المصدر
.سمح بالنشر

المرجع:

Gloria Furman, Missional Motherhood: The Everyday Ministry of Motherhood in the Grand Plan of God (Wheaton, Ill.: Crossway, 2016), 117.


Wednesday, August 20, 2025

العيش في سلام رغم الحرب: الجزء الأول

نُشر هذا المقال في الأصل بتاريخ 7 أكتوبر 2024.

يُصادف اليوم مرور سنة على اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل وسنة على تصاعد الأهوال التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. في نواحٍ كثيرة استمرت الحياة كالمعتاد حيث نعيش في الضفة الغربية، لكن في نواحٍ أخرى لم تكن الحياة طبيعية على الإطلاق. 

عندما أعدّ وجبة مشبعة ومغذية، أو أحتضن زوجي، أو أشاهد ابنتي وهي تلعب براحة، تتجه أفكاري نحو أولئك الذين بالكاد يجدون ما يأكلونه؛ والذين لا يعلمون إن كانوا سيحتضنون أحبّاءهم الأسرى يوماً ما؛ أو الأطفال الذين مرّوا بصدمات تفوق ما قد يختبره معظم الناس خلال حياتهم كاملةً. وبينما أنام في سرير دافئٍ في منزل سليم، أفكّر بأولئك الذين هُدمت بيوتهم أو قُصفت أو أصبحت غير صالحة للعيش، والذين يعيشون الآن في خيام، يحاولون النجاة وتوفير ما يسدّ احتياجهم، والخروج من هذه الحرب على قيد الحياة، وإن لم تعود الأمور كما كانت أبداً.

إن بشاعة طرق الموت التي نسمع عنها حتى عن بعض من نعرفهم والإصابات التي تغيّر حياة أصحابها إلى الأبد، والإذلال والإساءة والمستوى المعيشي الذي لا يُصدّق والذي يتحمّله هذا العدد الهائل من الناس كافية لتجعل صدري وحلقي يضيقان وتُغرق عينيّ بالدموع إذا ما فكّرت بها لوقتٍ كافٍ. نُصلّي أن يتوقف هذا العذاب، وأن تنتهي الحرب، وأن تزول أشكال القمع والعنف. ومع ذلك، فإن الصلاة بحد ذاتها قد تصبح مرهقة، لأنها تتطلب التفكير مراراً وتكراراً في هذه المآسي.

مع ازدياد ثقل هذا العبء خلال السنة الماضية، وجدتُ نفسي أصارع لأفهم كيف أعيش أيامي كتلميذة ليسوع وسط هذا الظلام. كيف أظلّ ثابتة في الصلاة حين يكون الحمل بهذا الثقل؟ كيف أُظهر صلاح الله لمجتمعنا بينما تبدو الظروف من حولنا بعيدة كل البعد عن الصلاح؟ كيف أُحبّ أعداءنا؟ كيف أُصلّي لأجل الذين يضطهدوننا؟ كيف أُجيب بلُطف على من يجهلون ماذا يحدث؟ كيف أعيش بسلام خلال فترة الحرب؟

إيجاد التوازن بين حمل الأسى على قبح الشر وبين الاستمتاع بجماليات ما زالت حاضرة في حياتنا بفضل النعمة هو رحلة يومية. فتبنّي موقف واحد فقط يبدو غير معقول؛ فلا أستطيع ببساطة أن أستمتع براحة حياتي وأغضّ الطرف عن المعاناة الهائلة القريبة منّي – جغرافياً وعاطفياً. وفي الوقت نفسه، لا أستطيع أن أقضي أيامي منحنية تحت وطأة الحزن والإحباط واليأس، رافضة أن أقبل البركات التي وُهبت لي أو أن أفرح بها. فكيف يبدو الأمر إذن حين أحمل كلا الأمرين معاً؟

كما حدث مرات عديدة من قبل، أظهر الله أمانته في توقيته المثالي، من خلال غنى كلمته، وحكمة أبنائه. 

في وقتٍ سابق من هذا العام، بدأنا بدراسة سفر دانيال في مجموعة الحياة التي نقودها أنا وزوجي في كنيستنا. وفي الشهر الماضي، وبينما كنتُ في ذروة صراعي الذي تحدّثتُ عنه، وصلنا إلى الإصحاحات ٧ إلى ٩ — وهي من أكثر الإصحاحات صعوبة وتعقيداً في الكتاب المقدّس. ومع ذلك، أشعر بامتنان عميق لأننا تشجعنا على الاستمرار في دراستها والتعمّق فيها في هذا الوقت بالتحديد. في منتصف هذه الإصحاحات الثلاثة، وفي نهاية الإصحاح الثامن، يوقف دانيال سرده للرؤيا بملاحظة حول تأثيرها عليه: "وَأَنَا دَانِيآلَ ضَعُفْتُ وَنَحَلْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ قُمْتُ وَبَاشَرْتُ أَعْمَالَ الْمَلِكِ، وَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا مِنَ الرُّؤْيَا وَلاَ فَاهِمَ." (دانيال ٨: ٢٧).

أنا أيضاً مرضت خلال الأسبوع الذي كنّا ندرس فيه هذا المقطع الكتابي، وكنا نمزح بأن هذه المعلومة كان لها نفس التأثير عليّ كما كان على دانيال. لكن لم يكن المرض الجسدي وحده هو ما جعلني أرى صلة بين دانيال وبيني.

كتب دانيال ل. أكين (Daniel L. Akin) تفسيراً لهذه الآيات، وكان لدى تفسيره تأثيراً عميقاً علي: «ما رآه دانيال واستوعبه أنهكه تماماً. لقد كان أمراً مرهقاً على المستوى الشخصي. [...] لقد دمرته تماماً الرؤيا في الإصحاح الثامن؛ كانت أثقل من أن يحتملها» (1). وبالمثل، فإن ما رأيته واستوعبته، ليس في رؤيا مستقبلية بل في واقع حاضر يبدو في أحيان كثيرة مرهقاً وأثقل مما أستطيع احتماله (ومع ذلك، لا يُقارن بما اختبره الآخرون بالفعل، ومعرفة ذلك مؤلم جداً).

لكن Akin يكمل قائلًا: "لقد تعزّى دانيال بحقيقة أن الله هو المتحكّم، وأن ملكوته سيأتي في النهاية (الجزء الثاني من الآية 25)، لكن معرفة أن العالم سيشهد كل هذا الشر، ومعاناة شعب الله قبل مجيء الملكوت، كان أمراً يفوق الاحتمال"(1).

وأنا أيضاً أجد عزائي في معرفة أن الله هو المتحكِّم، وأن ملكوته قد أتى جزئياً وسيأتي بالكامل في النهاية. لكنني، مثل دانيال، أجد أن رؤية هذا الكم من الشرّ في العالم، وهذا القدر من المعاناة التي يتحملها خلق الله والمخلصين بدمه، أمر يفوق التصوّر أحياناً.

ويُتابع التفسير قائلًا: "لقد مضى مرض دانيال. كانت نعمة الله كافية له. وبعد أن استعاد قوّته، نهض نبيّ الله وعاد إلى عمله كما اعتاد […] وقد أحسن سنكلير فيرغسون (Sinclair Ferguson) التعبير حين قال: "عاد إلى الواجبات التي دعاه الله إليها. لم يعتزل العالم خوفاً من الأيام الشريرة القادمة. ولم يسلك طريقاً معاكسا ليعيش في حماسة "عالية". بل قام بواجبه" (1). لقد جسّد دانيال هذه الثنائية: أن يشعر بالإنهاك من شدة المعاناة، ومع ذلك يواصل مسؤولياته اليومية بقوة من الله. حتى عندما لم يفهم، نهض وبدأ بالعمل.

يقتبس Akin مجدداً من Ferguson قائلا: "فكيف يجب أن نعيش إذاً؟ انشغل بأعمال الملك (الملك السماوي)؛ سِر في الطاعة؛ عِش في القداسة؛ طهِّر نفسك كما هو طاهر." ثم يختم Akin قائلا: "لقد أزعجت الرؤيا دانيال بشدة، ولم يستطيع فهمها. ومع ذلك، لم يسمح لها أن تشله. قام بعمله، ووثق في إلهه. لقد كان مثالاً لنا جميعاً"(1). وكم أنا ممتنة لهذا المثال.

كم يريحني أن أتذكر أن العيش في هذا التوتر ليس أمرا خاص بي وحدي، وأن أرى كيف تعامل نبي سار قبلي مع الحياة اليومية وهو مُدركٌ لمخاوفٍ مُرعبة. لا بأس أن أشعر بالإرهاق، ولا بأس ألا أفهم كل شيء. ولا بأس إن كانت هناك أيام يبدو فيها القيام بواجباتي المتنوعة أمر صعب في ظلّ هذا الشرّ العظيم لأن نعمة الله تكفي، وقوّته تَظهر في ضعفي (رسالة كورنثوس الثانية ١٢: ٩).

كما تقول غلوريا فورمان (Gloria Furman): "لأن المسيح اخترق قيود الموت المُدمّرة إلى حياة القيامة الأبدية، فإن المعاناة ليست نهاية قصّتنا"(2). ويمكنني أن أتمسك بهذه الحقيقة حتى وإن كانت المعاناة تُحيط بي حرفياً. يمكنني أن أستند على قوّته عندما لا أفهم، وحين أشعر بأنه مغلوب على أمري وأتذكر أنه قد وهب لي ولكل من يؤمن به ويتبعه حياةً وافرة.

لذا، وعلى الرغم من أنني لا أملك كل الأجوبة بعد، إلا أنني أشعر بسلام متجدد سلام مبني على ثقتي بأنني أستطيع الاعتماد على الله الروح ليقودني ويقويني وعلى الله الابن ليشفع من أجلي، وعلى الله الآب ليحتملني بصبر ويعاملني بنعمة بينما أسعى أن أعيش في طاعة لدعوتي: لأُعرِّف الناس عليه وأمجده في بيتي، وكنيستي، ومجتمعي، ومنطقتي، والعالم من حولي. وإلى أن يأتي اليوم الذي فيه يُبيد الله الشرّ نهائياً سأواصل المسير، وأُظهر محبته وأشارك البشارة السارة: أن رئيس السلام حيّ، ويعطي ما هو أفضل بكثير مما يمكن لهذا العالم أن يعطي.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميار مسلّم.  تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2024. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2024. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Bobbie Roberts Kyle :المصدر
.سمح بالنشر

مصادر الاقتباسات: 

1. Daniel L. Akin, Christ-centered Exposition: Exalting Jesus in Daniel (Nashville: Holman Reference, 2017),104-105.
2. Gloria Furman, Missional Motherhood: The Everyday Ministry of Motherhood in the Grand Plan of God (Wheaton, Ill.: Crossway, 2016), 131.

Wednesday, July 23, 2025

الثقة بالله عندما تبدو الطاعة أنها تزيد الأمور سوءاً

العديد من الناس على علم بما حدث في سفر خروج عندما حرر الله شعب إسرائيل من العبودية في مصر، لكن غالباً ما تقتصر الرواية على العناوين العريضة، فنقفز من مشهد العليقة المشتعلة إلى الضربات، ثم إلى شق البحر الأحمر. لذا، لنتوقف ونتأمل بعمق في تسلسل الأحداث…

بعدما قتل موسى الرجل المصري وهرب للبرية، التقى بالله عند العليقة المشتعلة وتلقى أمر العودة إلى مصر ومواجهة فرعون والمطالبة بإطلاق سراح بني إسرائيل من عبوديتهم التي استمرت 400 عام. أطاع موسى أمر الله، ولكن بعد أن جادله في شأن عدم كفاءته لهذا الدور البارز، ثم جمع عائلته وانطلق عائداً إلى مصر.

الحدث المحوري التالي البارز الذي ننتقل له في القصة هو الضربات التي أرسلها الله على المصريين عندما قام فرعون أكثر من مرة برفض سماع أوامر الله كما نقلها له موسى وأخوه هارون (كما كان متوقعاً إذ أن الله أنذر موسى مسبقاً بأن هذا سيحدث). وفي نهاية المطاف، وبعد الفصح الذي وفّر فيه الله وسيلة خلاص لبني إسرائيل من ملاك الموت الذي قضى على كل بكر من الذكور، سمح فرعون أخيراً للإسرائيليين بالخروج. لكن ذلك لم يتم دون أن يتراجع مجدداً عن قراره، فلاحقهم حتى البحر الأحمر، حيث شقّ الله البحر ليعبر بنو إسرائيل بأمان، ثم أغرق جيش فرعون في المياه.

ولكن ما بين العليقة المحترقة والضربات هناك الإصحاح الخامس من خروج، والذي يحوي درس مهم إذا ما توقفنا عنده وقت كافي للتمعن. كان موسى وأخوه هارون في زيارتهم لفرعون ليطلبوا إذن للإسرائيليين ليذهبوا للبرية ليقدموا الذبائح للرب. في ذلك الوقت، كان فرعون يُكلِّف بني إسرائيل بمهمة شاقة للغاية وهي صناعة اللِّبْن من التِبْن الذي كان يُوفَّر لهم (صناعة الطوب من القش، بحيث أن المصريين كانوا يوفرون القش للإسرائيليين). قد رأى فرعون أن طلب الإخوة هو حيلة تهدف إلى إعفاء عبيده من الأعمال المجبرين عليها لعدة أيام. ورداً على ذلك، لم يرفض فرعون الطلب فحسب، بل أمر بأن يُجبَر بنو إسرائيل على جمع التِبْن بأنفسهم، مع إبقاء نفس الكمية اليومية من اللِّبْن.

الإسرائيليين كانوا غاضبين وقد صبوا جام غضبهم على موسى وهارون: "فَقَالُوا لَهُمَا: «يَنْظُرُ الرَّبُّ إِلَيْكُمَا وَيَقْضِي، لأَنَّكُمَا أَنْتَنْتُمَا رَائِحَتَنَا فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ وَفِي عُيُونِ عَبِيدِهِ حَتَّى تُعْطِيَا سَيْفًا فِي أَيْدِيهِمْ لِيَقْتُلُونَا»." (خروج 5: 21). كان قد عاد موسى ليطلق شعبه وبدلاً من ذلك وجد أن تصرفاته –التي كانت طاعة لله– قد جلبت له صعوبات أعظم. كيف يمكن أن يعقل ذلك؟ الطاعة يجب أن تجلب البركة، أليس ذلك؟

لقد فعل موسى ما يمكن لأي شخص أن يفعله في هذا الموقف. لقد عمل ما طلب الله منه، والآن الناس الذين كان يحاول مساعدتهم انقلبوا عليه لذا "رَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا أَسَأْتَ إِلَى هذَا الشَّعْبِ؟ لِمَاذَا أَرْسَلْتَنِي؟ فَإِنَّهُ مُنْذُ دَخَلْتُ إِلَى فِرْعَوْنَ لأَتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ، أَسَاءَ إِلَى هذَا الشَّعْبِ. وَأَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ»." (خر 5: 22-23).لا أعلم عنك ولكن بالنسبة لي هذا بالضبط ما يمكنني قوله إذا فعلت ما طلبه مني الرب ووجدت أن له تأثير عكسي لما توقعته.

اليوم، لدينا ميزة أننا نعرف ما حدث بعد ذلك، ونعلم كيف وفى الله بوعده وخلّص بني إسرائيل من العبودية. لكن من المهم ألا نقفز مباشرة إلى نهاية القصة، بل أن نتأمل في نهاية الإصحاح الخامس. لقد أطاع موسى، وتحمل مخاطرة كبيرة، ومرّ باضطرابات هائلة ليقوم بما أمره الله به. ومع ذلك، وجد نفسه أمام واقع لا يشبه أبداً ما وعده الله به. لم يكن هناك خلاص، بل ازداد الظلم سوءاً. كان من السهل عليه في تلك اللحظة أن يستسلم، وأن يدير ظهره لله، ويقول: "لا جدوى من الاستمرار، من الواضح أنني كنت مخطئ في ظني أن الأمور ستتحسن." لكن موسى، حين حمل شكوكه وإحباطه إلى الله، أبقى قلبه مفتوحاً ليسمع إجابة.

بعدما واجه موسى الرب قائلاً " أَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ" (خر 5: 23)، جاء ردّ الله بكلمة لافتة: "الآن". "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «الآنَ تَنْظُرُ مَا أَنَا أَفْعَلُ بِفِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ يُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَوِيَّةٍ يَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ» (خر 6: 1). لم يكن الأمر أن الله قد أخلف وعده، بل إن عمله لم يكن قد اكتمل بعد. 

عندما ظهر الله لموسى في العليقة المشتعلة (خروج 3)، أخبره أن فرعون لن يسمح بخروج الشعب في البداية. وأثناء الطريق إلى مصر (خروج 4)، أنذره الله بالضربة الأخيرة وهي موت بكر فرعون. لكن الله لم يحدد توقيت حدوث هذه الأمور. لم يعطِ الرب وعد بأن الأمور لن تزداد سوءاً قبل أن تتحسن، وكان على موسى أن يثق بأن ما أعلنه الله سيحدث.

الرب برحمته التقى مع موسى عند نقطة الشك وذكّره بعلاقته الطويلة مع الشعب بدءاً من إبراهيم وإسحق ويعقوب. تكلم الرب مع موسى بصيغة الماضي "وَأَنَا ظَهَرْتُ .."، "أَقَمْتُ مَعَهُمْ عَهْدِي .." وبصيغة الحاضر "أَنَا الرَّبُّ .." وبصيغة المستقبل "وَأَنَا أُخْرِجُكُمْ .." و"أُنْقِذُكُمْ .." و"أُخَلِّصُكُمْ .." مؤكداً له عظمة قدرته وأمانته عبر العصور، ومبيناً له أنه حلقة صغيرة ضمن قصة كبرى تحكي علاقة الله بالإنسان (خروج6 :2-8). مع هذا التذكير عزّز الرب إيمان موسى، فاختار أن يستمر في السير بطاعة لله، رغم أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بكلامه (خروج 6: 9). ومع ذلك، اختار أن يثق بالله ويأخذ كلامه على محمل الجد.

من خلال ما جاء في تيموثاوس الثانية 3: 16، نعلم أن "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ نَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ". لا يسعني إلا أن أعتقد أن الأهداف من إدراج الإصحاحين الخامس والسادس من سفر الخروج هم مساعدتنا على النمو في الإيمان، تذكيرنا بأمانة الله في وعوده، وتشجيعنا عندما تبدو الأمور وكأنها تزداد سوءاً بعد الطاعة. خطة الله لا يمكن أن تفشل. وأمانته لا تتزعزع. دورنا أن نبقى ثابتين في الطاعة، مهما كانت العواقب، لكي نعكس صلاح الله، ومجده، وصدق وعوده أمام العالم.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.

.This post was first published in 2021. To see the original English version, click here

هذا المنشور تم نشره أولا في 2021. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.

 Leila Coblentz :المصدر  
.سمح بالنشر

Wednesday, June 18, 2025

قلب سعيد

عندما كنت طفلة، كانت هناك خدمة تُدعى Life Action تأتي إلى كنيستنا عدة مرات لتنظيم فعاليات كنسية تمتد لأسبوع كامل. وفي إحدى المرات على الأقل، تم تمديد زيارتهم لأن الله كان يعمل بقوة في وسطنا. في الواقع، من خلال خدمة Life Action تعرّف والداي على الرب بشكل شخصي، وبعد إيمانهما، تعرفت أنا أيضاً على يسوع المسيح وتبعته.

خلال الجلسات المسائية، كان الكبار يحضرون عظات، أما نحن الأطفال فكنا نحصل على دروس ونشاطات خاصة بنا. خلال ذلك الوقت تعلمت تعريف الطاعة بطريقة موسيقية مع حركات بالأيدي، ولذلك مازلت أتذكرها حتى اليوم: "الطاعة هي أن تفعل ما طُلب منك فعله، حين يُطلب منك، بقلب سعيد." إحذف أي جزء من هذه الجملة، ولن يكون لديك طاعة حقيقية.

معظمنا من أطفال التسعينات كنا نعرف أنه إذا طَلب منا أهلنا فعل شيء و لم نفعله، فإذن نحن غير طائعين. لكن الجزء التالي من العبارة كان غير مريح بعض الشيء. إذا قلنا أننا سنفعل الشيء و نوينا فعله، لكن قررنا أن نفعله لاحقاً، بعد أن نكون قد انتهينا من عمل ما كنا منشغلين به في تلك اللحظة، فهذا يُعتبر طاعة غير حقيقية. بكلمات أخرى، الطاعة المتأخرة هي عصيان. أتذكر بعد تعلم ذلك الدرس أنني حاولت تغيير سلوكي من التأجيل إلى الطاعة في الحال أو ببساطة أطلب: "هل بإمكاني أن انتهي من هذا الفصل من الكتاب (أو الأغنية) أولا؟" (لأنه بصراحة، كنت عادةً أقضي وقتي إما بالقراءة أو عزف البيانو عندما كنت اتلقى تعليمات أهلي). في معظم الوقت كان الجواب "نعم"، لكن عندما كان الجواب "لا"، كان لدي الخيار إما أن أتحدى أهلي بعدم الطاعة من خلال التأجيل بكل الأحوال أو التوقف عن ما كنت أفعل وأطيع. اتخاذ الخيار الصحيح لم يكن دائماً سهلا، لكن هذا ما كنت مدعوة لفعله كــوني  ابنة اتبعت يسوع – أن أكرم أبي و أمي. 

ومع أن هذا الجزء كان صعباً، إلا أنه لا يُقارن بصعوبة الجزء الأخير: "بقلب فرح".

صحيح أنني قد أنجح في "فعل ما طُلب مني وقتما طُلب مني"، لكن هل كنت أفعل ذلك بسعادة؟ أم كنت أتذمر في داخلي – أو حتى علناً – لأنني اضطررت إلى التوقف عن هوايتي الممتعة لأفرغ غسالة الصحون أو لأصعد لأجلب شيئًا لأمي؟ الحقيقة المُحرجة هي أنه إذا كنت أفعل المطلوب فقط من دون فرح، فأنا لست طائعة حقاً.

حسناً، ربما تفكر، لكن ما علاقة هذا بي، كشخص ناضج؟ فعلياً،  إنه متعلق بكل شيء. لأننا، مثلما يُطلب من الأطفال طاعة واحترام والديهم الأرضيين، يُطلب منا نحن، أبناء الله من كل الأعمار، أن نُطيعه ونُكرمه. وتعريف الطاعة بالنسبة لنا هو نفسه:

"الطاعة هي أن نفعل ما طُلب منا، وقتما طُلب، بقلب سعيد."


هل كنت تعلم أن الكتاب المقدس فعلياً يتحدث عن القلب عندما يكون الموضوع عن الطاعة؟ اقرأ هذه الكلمات من رومية 6: 16-18، و انظر إن كنت تجدها: 

"ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة، أنتم عبيد للذي تطيعونه: إما للخطية للموت أو للطاعة للبر؟ فشكرا لله، أنكم كنتم عبيدا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها. وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا للبر."

هل لاحظت ذلك؟ "أطعتم من القلب" أي طاعة حقيقية. لكن كيف استطاع مستقبلو رسالة بولس أن يكونوا مطيعين من القلب؟ وكيف نستطيع نحن أن نفعل دائماً ما يقوله الله لنا بقلب سعيد؟ قد أضحي بوقتي، أو أخوض محادثة صعبة، أو أذهب حيث يدعوني الله، لكن هل أنا سعيد بذلك؟ أو أنني اتذمر داخلياً – أو خارجياً أنه علي إيقاف نشاطاتي المريحة والممتعة للقيام بما طلبه الله مني؟

لا أعلم عنك، لكنني أعيش صراع مستمر بين طبيعتي البشرية (الإنسان العتيق) وطبيعتي الجديدة. ومع ذلك، فحقيقة وجود هذا الصراع تُشجعنا. لأنها تعني أن قلبنا الحجري قد استُبدل بقلب جديد (انظر حزقيال 36: 26). قبل التعرف على يسوع، قلبنا غير قادر على الطاعة بسعادة. من الممكن أن نقوم بعمل المطلوب منا بالأفعال، لكن لن نستطيع أن نكون حقاً مطيعين لأن قلوبنا تتجه نحو الأنانية و البر الذاتي. لكن عندما نستسلم للمسيح، يُعطينا قلب جديد، ومن خلال هذا القلب الجديد نستطيع أن نطيعه طاعة حقيقية. نستطيع أن نقول بصدق مع داود: "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت، وشريعتك في وسط أحشائي" (المزمور 40: 8).

الله لا يطلب منا فقط الطاعة الكاملة. بل ويعطينا بلطفه الأدوات الضرورية للطاعة. هو حرفياً يغير قلبنا ويضع روحه فينا، يجعل من الممكن لنا أن نكون مطيعين حقاً. من خلال قلبنا الجديد، الذي يسكنه الروح القدس، لدينا قوة ساكنة داخلنا قادرة أن تهزم جسدنا المزعج، المتذمر، المماطل وتعطينا القدرة لاختيار الطاعة بعزم وسرور عندما يُطلب منا أمر. إذاً دعونا لا نتجاهل أو نحاول إخماد هذه القوة. فلنقدّر هذا العطية التي صارت ممكنة بحياة يسوع الكاملة، وموته البدلي، وقيامته المنتصرة. قد أُعتقنا من عبودية الخطيئة، فلنبدأ بطاعة الله طاعة كاملة، بقلب سعيد. 

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ليلى عطالله. تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2023. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2023. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Eric Eanes :المصدر
سمح بالنشر

Wednesday, May 21, 2025

محبة الله تتجلى في الشريعة

خلال نقاشات تدور حول الكتاب المقدس أو عن الله، في كثير من الأحيان يظهر تباين بين العهد القديم والعهد الجديد، إذ يتم الادعاء بأن كلاً منهما يُظهر جانب مختلف من طبيعة الله. ويعبّر عن هذا التباين غالباً ب الشريعة (الناموس) في العهد القديم مقابل المحبة في العهد الجديد، أو الدينونة في العهد القديم مقابل النعمة في العهد الجديد. 

كون أن دينونة الله تظهر بوضوح في العهد القديم، هل يعني ذلك غياب محبة الله؟ لا اعتقد ذلك. في الحقيقة، هناك أمثلة كثيرة على محبة الله في العهد القديم، بدءاً من وعد الله بمخلص الذي سيرفع اللعنة في سفر تكوين إصحاح 3. ولكنني أعتقد أن أحد مظاهر المحبة الإلهية التي يتم تجاهلها بشكل كبير نجدها في الشريعة نفسها.

لفهم الفكرة بشكل كامل، من المهم أن نتعرف على ثقافة الشرق القديم أي الشعوب التي عاصرت بني إسرائيل. انغمس أهل بلاد ما بين النهرين في منظور عالمي تتعدد فيه الآلهة، وكانوا منشغلون دوماً في إرضاء آلهتهم. اعتقدوا أن الهدف من وجودهم هو ضمان رضا الآلهة، إلا أنهم لم يعرفوا أبداً ما يلزم لضمان رضاهم. وهكذا، كانوا مستعبدين. ولكن يهوه، إله الكتاب المقدس، لم يكتف فقط بالتنازل للتواصل مع شعب إسرائيل، بل بيّن لهم بوضوح تام معاييره شفهياً وكتابياً (تثنية 5: 22)، بدلاً من أن يتركهم في حيرة. 

«إِنَّ هذِهِ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ لَيْسَتْ عَسِرَةً عَلَيْكَ وَلاَ بَعِيدَةً مِنْكَ لَيْسَتْ هِيَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ وَلاَ هِيَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ حَتَّى تَقُولَ: مَنْ يَعْبُرُ لأَجْلِنَا الْبَحْرَ وَيَأْخُذُهَا لَنَا وَيُسْمِعُنَا إِيَّاهَا لِنَعْمَلَ بِهَا؟ «اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ" (تثنية 30: 11- 15). 

بكلمات أخرى، الله جعل الشريعة متاحة لهم، وأعطاهم خياراً واضحاً بدلاً من أن يتركهم لتخمين مصيرهم. ويُظهِر هذا، في نظري، محبة الله. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد.

كما اتضح جلياً، فإن معيار الله في حفظ وتحقيق الشريعة و "الرجوع إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ وَبِكُلِّ نَفْسِكَ" (تثنية 30: 10)، كان شبه مستحيل أن يتحقق دون تدخُّل خارجي. فمهما بذلوا من جهد، لم يستطع بنو إسرائيل أن يلبّوا متطلبات إله قدوس، إذ كانت قلوبهم ميالة إلى التمرّد ومتقسية في اللامبالاة.

وهكذا أصبحت الشريعة تذكير مستمر أن الشعب بحاجة الى مساعدة. وكما كتب بولس في رسالة رومية 7: 7 و3: 20 " بَلْ لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ." فلو لم يمنح الله شعبه الشريعة، لما كانوا حتى على وعي بأنهم ماضون نحو انفصال أبدي عنه! ومن خلال إعلانه للشريعة، أظهر الله محبته – فهو أيقظ شعبه لحقيقة أن نفوسهم في خطر شديد. ولكن، مرة أخرى، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد.

بعدما أن أعلن الرب عن معاييره وكشف لشعبه عجزهم عن الوصول إليها، وَعَدَ بحل إلهي: "وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا، وَأَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ، لِكَيْ يَسْلُكُوا فِي فَرَائِضِي وَيَحْفَظُوا أَحْكَامِي وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَيَكُونُوا لِي شَعْبًا، فَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا." (حزقيال 11: 19-20).

هذا الوعد تحقق في شخص يسوع المسيح، هو الله ذاته الذي تجسد (وُجِدَ في هيئة إنسان) لكي يعيش الحياة التي عجز الجميع عن عيشها — الحياة التي تُحقق تماماً معايير الله. وبعد أن عاش تلك الحياة الكاملة، بذل نفسه — وهو البريء الكامل — وضحّى بها، حاملاً في جسده دينونة الله الكاملة، تلك التي يستحقها كل من أَخفق في بلوغ المعيار الإلهي.

ومن ثم قام من بين الأموات ليقبله الآب السماوي في الأمجاد وليمنح جميع الشعوب ومنهم بني إسرائيل فرصة الحصول على التبرير من خلال حياته الكاملة التي عاشها. لذا، الاعتراف بالعجز عن بلوغ معايير الله – أي الطاعة الكاملة للشريعة – والتخلي عن الطريق الأناني المتكبر، والإيمان بأن حياة الرب يسوع المسيح وموته وقيامته كافية للخلاص، هو الطريق لننال – بقوة الروح القدس – ذاك القلب الجديد الذي يمنحنا أن نعيش وفقاً لمشيئة الله. 

وهكذا أظهر إله الكتاب المقدس – في عهديه القديم والجديد – محبته من خلال إعلانه عن الشريعة، وكشْفِه لحالة نفوس الناس، وتوفيره الطريق لتحقيق معاييره مرة واحد وللأبد. لكن الأكثر روعة هو إدراك أن هذه المحبة لم تقتصر على شعب إسرائيل فقط!

هذه الشريعة أُعلنت لنا أيضاً، ولا تزال تكشف بفعالية عن حالة قلوبنا! كما أن تضحية المسيح، التي استوفت غضب الله تجاه الخطيئة وحققت المعيار الإلهي، لا تزال كافية وفعّالة لخلاصنا. 

ما أعظمها من محبة لا نظير لها! هل اختبرتها أنت شخصياً؟

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميار مسلّم.  تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2016. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2016. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.




Thursday, April 24, 2025

ضبط النفس لدى مُخلصنا

مثلما يتم دائما الإشارة إلى لوقا الاصحاح الثاني في كل وعظ حول وقت الميلاد، فإن روايات الأناجيل عن الأيام المحيطة بموت يسوع وقيامته تأخذ اهتمام أكثر خلال فترة الفصح. يعظ القساوسة عن العشاء الأخير، عن محاكمة بيلاطس ليسوع، عن الصلب، وعن القيامة المنتصرة لمخلصنا، ولكن خلال الأيام الأخيرة ليسوع هناك خيط لا يتم التأكيد عليه، ولكنه يستحق انتباهنا. انه خيط لطالما لاحظته وشد انتباهي لأنه تذكير صارخ بالفجوة الواسعة الموجودة بين كمال الله ونقصي أنا.

أنا من النوع الذي يحصل على درجات عالية جداً في الفئة "C" (أي "الدقة" أو "الانضباط") في اختبار الشخصية المعروف بـ "DISC"، وهذا يعني أنني أهتم بأدق التفاصيل، ليس فقط بإيجاد الأجوبة، ولكن الصحيحة منها، وأيضاً أرفض الجهل فيّ وفي الأخرين. هل تريد أن تجعلني غاضبة جداً؟ ضعني بموقف يمكنني فيه سماع شخص يسأل سؤال، أعرف الجواب الصحيح عليه أو الأسوأ سماع شخص يجيب بطريقة خاطئة عليه وليس بمقدوري إعطاء الإجابة الصحيحة. خاصة إذا تصرف الأشخاص بطريقة مبنية على معلومات غير صحيحة يمكن أن تضرهم، مثلاً عدم لحاق شخص بالحافلة لأنه اعتقد أن الحافلة تصل الساعة 1:30 بدل الساعة 1:00.

لا تفهموني بطريقة خاطئة، هذه النزعة بالشخصية هي عطية من الله ولا تنقص مني، بل الطبيعة الخاطئة التي ولدت بها هي التي تفعل. هذه الطبيعة الخاطئة هي التي تجعل هذه الخصلة من شخصيتي تتحول لصنع الشر. يمكن لهذه الصفة أن تغذي كبريائي عندما اهتم بكوني على صواب أكثر من أي شيء آخر. تجعلني دفاعية عندما يظن الاخرين انني أخطأت بغض النظر سواء أني أخطأت بالفعل أم لا. وتجعل من الصعب عليّ أن أُظهر ثمار الروح القدس، خاصة في الجزء الذي نطلق عليه ضبط النفس.

بهذا أرى كمال يسوع يضيء بسطوع في الوقت الذي يحيط بموته. اللمحة الأولى لضبط النفس نجدها خلال الوقت الذي تم القبض فيه عليه في بستان جثسيماني. وبَّخ واحد من تلاميذه (محتمل أنه بطرس) لقطعه أذن الرجل في محاولة للدفاع عنه، وسأله سؤالاً استنكارياً " أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟” (متى 26: 53). بمعرفته بيسوع، علم بطرس الجواب، بالطبع يستطيع أن يطلب من الله أن ينقذه مما على وشك أن يحدث. ولكن يسوع فعل ذلك ليثبت لبطرس أن هذا الأمر لم يكن جزء من الخطة. كان لديه ضبط النفس ليستسلم لإرادة الآب بدل أن يستخدم قوته ليدافع عن نفسه.

سرعان ما تم القاء القبض عليه واحضاره أمام رئيس الكهنة وباقي المجمع، اتُّهم بشهادة زور بالتجديف." فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا.؟" (متى 26: 62، 63). لقد بقي صامتاً. لم يتم اتهامه فقط، بل تم اتهامه زوراً. ولم يكن اتهام بخطية صغيرة مثل السرقة أو الكذب، بل كان اتهام بالتجديف. الله نفسه اتُهم بانتهاك ضد الله.

كمثال بسيط توضيحي: أنا أقدّر والديّ من أعماق قلبي، لو تم اتهامي من بعض أشخاص بأني لا أحب والديّ، أو أني لا أنتمي إليهما، أو أكرههما، بالطبع، سأُصرّ على أن هؤلاء الأشخاص مخطئون، وربما سأُسارع إلى تقديم الأدلة التي تُثبت أنهم على خطأ، وأن افتراضاتهم غير منطقية إطلاقاً. ولكن يسوع لم يفعل ذلك. وما جعل صمته مدهش أكثر أنه كان بإمكانه تبرير نفسه إذا تكلم.

هو الإله أرجوكم! هو كامل وقدوس. لم يكن هناك أي أساس لهذه الاتهامات التي كانت ضده. لم يكن هو الطرف المخطئ الذي يحاول أن يجد أعذاراً ليدافع عن تصرفاته للذين يحاكمونه. لا، فإنه كان بالحقيقة بريء وكان بعيد كل البعد عن الخطية التي أُتّهم بها، فحياته كانت تشهد بعكس هذه الاتهامات تماماً. ورغم ذلك بقي صامتاً. لم يدافع عن نفسه. يا له من ضبط نفس!

ولكن رئيس الكهنة لم يتقبل سكوته. وأصرّ أخيراً "فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟»"(متى 26: 63). بعد كل تلك الاتهامات الخاطئة، فُتح الباب الآن على مصراعيه أمام يسوع ليقدم أدلته بكل وضوح. لقد أُعطي فرصة على طبق من ذهب ليقدم للجميع المعلومات الصحيحة. ولكن لم يفعل، لم يدافع عن نفسه. وبدلاً من ذلك أعطى رداً مبهم، لكنه كان كافياً على الأقل لكي يفهم رئيس الكهنة أن يسوع كان يدّعي شيئًا لم يكن الكهنة يؤمنون به عنه. وعليه، انضم الكهنة إلى شهود الزور في اتهام يسوع بالتجديف، وبدأ البصق والضرب.

لم يكن التعنيف الجسدي فقط ما كان على يسوع مواجهته. لقد سخروا منه لأنه ادّعى أنه الله." وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ، قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟»" (متى 26: 67 و68).  وأنا أقرأ هذا، كل ما في داخلي يريد أن يقول، "حسناً، تريد أن تعرف من الذي ضربني؟ سوف أخبرك. إنه يوشيا البنّاء ابن لاوي وأليصابات من قرية في شمال القدس". وأُكمل وأُخبر الجميع بكل ما فعله ذلك الرجل لأثبت للجميع كم كانوا مخطئين ولأُثبت لهم أنه الله. ولكن كان يتحلى بقوة أكثر لضبط النفس.

بدلاً من ذلك، تقبَّل الضرب والسخرية وتحمل كل ذلك مرة أخرى أمام بيلاطس، الحاكم الروماني. مزيد من الاتهامات، مزيد من الضرب، مزيد من السخرية. ولكنه بقي بدون دفاع وأكمل طريقه إلى الجبل الذي سوف يصلب عليه. وكأنه لم يكتفِ من المعاناة، استمر الناس بالسخرية منه وهو يُرفع على الصليب " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ! " (متى 27: 40).  بالطبع كان بإمكانه أن ينزل عن الصليب. كان بإمكانه إنهاء كل شيء بأي لحظة يختارها. وكان سيكون لديه كافة التبريرات لذلك. كان يواجه أعظم ظلم في تاريخ الكون وهو الوحيد البار، الإنسان الكامل كلياً يُعامل كأنه أسوأ المجرمين.

ولكن، وبدلاً من أن ينزل عن الصليب، وبدلاً من أن يدافع عن اسمه، وبدلاً من أن يمحو الجهل الذي كان يحيط به ويترك كل من حوله دون أدنى شك في من يكون، امتلك ضبط النفس الكافي ليصمد حتى النهاية، حتى يتمم الخطة التي وضعها منذ بداية الزمن، كما يجب لها أن تكون. كل الألم الجسدي، كل الألم العاطفي، كل الألم الروحي، وكل العذاب الذي كان من شأنه أن يدفع أيّاً منّا إلى حافة الانهيار والرغبة في تصحيح كل شيء فوراً – لكن لا شيء من هذا مساوياً لقدرته على ضبط النفس.

في الحقيقة، لا ينبغي أن نتفاجأ من ذلك. فثمر الروح القدس يأتي من الروح القدس نفسه (أي من الله)، من جوهر طبيعته الإلهية. وغالباً نربط ثمار الروح القدس بطبيعة الله الصالح، المُحب، ومصدر السلام، لكننا لا نفكر كثيراً في ضبط النفس. ومع ذلك، نرى في هذه المرحلة من حياة يسوع تجلياً واضحاً لعنصر ضبط النفس كجزء من طبيعة الله. ومن خلال إظهاره لهذا الانضباط العجيب، يرينا يسوع مرة أخرى صورة الحياة التي يجب أن يحياها من يسلك على مثاله.

لم يطلب منا أن ندير الخد الآخر أو أن نصبر عندما يكرهنا الآخرون أو يهينوننا بسبب اتباعنا له، دون أن يُرينا كيف نفعل ذلك. بل أرانا بنفسه الطريق. ومن خلال ضبط النفس الذي أظهره في التمسك بالخطة الإلهية، جعل من الممكن لنا أن نصبح أكثر شبهاً به. لأنه بدون موته نيابة عنا، كنا سنظل عالقين في حياتنا البعيدة عن الله، دون أي رجاء في أن نكون يوماً ما أبرار بما يكفي لنقف أمام الله. ولكن بفضل مخلّصنا المملوء بضبط النفس، يمكننا أن نتحرر من تلك القيود المظلمة التي تبعدنا عن الله.

إن لم تكن قد أدركت من قبل مدى اليأس الذي يكتنف الطبيعة البشرية الخاطئة، ومدى الرجاء القوي والثابت الذي لنا من خلال حياة يسوع الكاملة وموته الاستثنائي وقيامته المجيدة، فإنني أصلي أن تأخذ القليل من الوقت لتقرأ واحد من الأناجيل في الكتاب المقدس (متى، مرقس، لوقا أو يوحنا). وإذا لديك أسئلة فإنني سأكون سعيدة للتكلم معك عنهم. ربما لا أمتلك كافة الأجوبة، ولكن سأسعى للحصول عليهم معك.

وإذا كنت رجعت عن خطاياك وتعتمد على يسوع لتعيش حياة جديدة مع الله. أصلي أن تأخذ الوقت لتتأمل ذبيحة ضبط النفس التي قدمها يسوع لك وتقدم التسبيح له لأنه، بكل تأكيد، يستحق كل تسبيح.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2021. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2021. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.