Wednesday, November 19, 2025

الحفاظ على روح الشكر حيّة طوال العام

كثيراً ما نسمع من يدعونا إلى أن يكون لدينا روح الامتنان –عقلية ممتنّة وسلوك قائم على الامتنان– حتى أصبح هذا الكلام مألوف ومتكرر لدرجة أن معناه الحقيقي قد يضيع، بل وأحياناً يبدو مُبتذل. ولكن هذا الكلام يحمل الكثير من الحقيقة، خصوصاً لأتباع يسوع المسيح. فنحن كمسيحيين مدعوون لأن نكون شاكرين في كل حين، وهذا يتطلب أكثر من مجرد قول كلمة "شكراً". يجب أن نتميّز بعقلية ممتنّة، ليس خلال أسبوع واحد من السنة فقط، بل يوماً بعد يوم.

إليكم بعض الأفكار لتنمية روح الامتنان وإبقائها حيّة في أذهاننا وسلوكنا طوال العام:

1) إكرز بالإنجيل لنفسك كل يوم: 

الإنجيل –الخبر السار عن حياة يسوع الكاملة والمثالية، وموته الكفاري، وقيامته الغالبة من بين الأموات– هو حياتنا بذاتها. فهو ليس مجرد أساس إيماننا، بل هو جوهره، مُذَكِّراً إِيَّانَا بمن هو الله ومن نحن، وبماذا فعله الله، وما يفعله الآن، وما سيفعله من أجلنا. وعندما ندع هذه الحقائق تستقر بعمق في قلوبنا وعقولنا، يصبح من المستحيل ألّا نكون شاكرين.

2) احفظ آيات عن الشكر: 

الكرازة اليومية بالإنجيل لأنفسنا تساعدنا على ترسيخ كلمة الله في عقولنا. فكامل الكتاب المقدس يعطينا سبباً لأن نكون شاكرين ولكن هناك العديد من الآيات التي تذكر الشكر بالتحديد. والروح القدس، بطريقته المثالية، يأخذ بذور الكتاب المقدس التي زرعناها ويجعلها تؤتي ثمارها {يجعلها مفيدة} من خلال استحضارها إلى عقولنا في أمس حاجتنا إليها. فحفظ الآيات عن الشكر سيؤدي إلى توسيع وتعميق فهمنا للشكر بينما نتأمل في حقيقة كلمة الله.

إليكم بعض الآيات عن الشكر:

 اَلْمَزَامِيرُ 9: 1 "أحمَدُ الرَّبَّ بكُلِّ قَلبي. أُحَدِّثُ بجميعِ عَجائبِكَ." 

اَلْمَزَامِيرُ 28: 7 "الرَّبُّ عِزّي وتُرسي. علَيهِ اتَّكلَ قَلبي، فانتَصَرتُ. ويَبتَهِجُ قَلبي وبأُغنيَتي أحمَدُهُ" 

اَلْمَزَامِيرُ 57: 9 "أحمَدُكَ بَينَ الشُّعوبِ يا رَبُّ. أُرَنِّمُ لكَ بَينَ الأُمَمِ." 

اَلْمَزَامِيرُ 75: 1 "نَحمَدُكَ، يا اللهُ نَحمَدُكَ، واسمُكَ قريبٌ. يُحَدِّثونَ بعَجائبِكَ."

اَلْمَزَامِيرُ 79: 13 "أمّا نَحنُ شَعبُكَ وغَنَمُ رِعايَتِكَ نَحمَدُكَ إلَى الدَّهرِ. إلَى دَوْرٍ فدَوْرٍ نُحَدِّثُ بتسبيحِكَ "

اَلْمَزَامِيرُ 97: 12 "افرَحوا أيُّها الصِّدّيقونَ بالرَّبِّ ، واحمَدوا ذِكرَ قُدسِهِ ."

اَلْمَزَامِيرُ 106: 1 "هَلِّلويا. اِحمَدوا الرَّبَّ لأنَّهُ صالِحٌ، لأنَّ إلَى الأبدِ رَحمَتَهُ. "

اَلْمَزَامِيرُ 111: 1 "هَلِّلويا. أحمَدُ الرَّبَّ بكُلِّ قَلبي في مَجلِسِ المُستَقيمينَ وجَماعَتِهِمْ. "

كورِنثوسَ الأولَى 15: 57 "ولكن شُكرًا للهِ الّذي يُعطينا الغَلَبَةَ برَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ. "

كورِنثوسَ  الثّانيةُ 2: 14 "ولكن شُكرًا للهِ الّذي يَقودُنا في مَوْكِبِ نُصرَتِهِ في المَسيحِ كُلَّ حينٍ، ويُظهِرُ بنا رائحَةَ مَعرِفَتِهِ في كُلِّ مَكانٍ." 

'كورِنثوسَ  الثّانيةُ 9: 15 "فشُكرًا للهِ علَى عَطيَّتِهِ الّتي لا يُعَبَّرُ عنها ."

أفَسُسَ 5: 4 "ولا القَباحَةُ ولا كلامُ السَّفاهَةِ والهَزلُ الّتي لا تليقُ ، بل بالحَريِّ الشُّكرُ. "

 أفَسُسَ 5: 18، 21 "ولا تسكَروا بالخمرِ الّذي فيهِ الخَلاعَةُ، بل امتَلِئوا بالرّوحِ، 'مُكلِّمينَ بَعضُكُمْ بَعضًا بمَزاميرَ وتَسابيحَ وأغانيَّ روحيَّةٍ، مُتَرَنِّمينَ ومُرَتِّلينَ في قُلوبكُمْ للرَّبِّ. شاكِرينَ كُلَّ حينٍ علَى كُلِّ شَيءٍ في اسمِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ ، للهِ والآبِ. خاضِعينَ بَعضُكُمْ لبَعضٍ في خَوْفِ اللهِ ." 

فيلِبّي 4: 5-6 "ليَكُنْ حِلمُكُمْ مَعروفًا عِندَ جميعِ النّاسِ. الرَّبُّ قريبٌ . لا تهتَمّوا بشَيءٍ ، بل في كُلِّ شَيءٍ بالصَّلاةِ والدُّعاءِ مع الشُّكرِ، لتُعلَمْ طِلباتُكُمْ لَدَى اللهِ."

كولوسّي 1: 11-12 "مُتَقَوّينَ بكُلِّ قوَّةٍ بحَسَبِ قُدرَةِ مَجدِهِ، لكُلِّ صَبرٍ وطول أناةٍ بفَرَحٍ ، شاكِرينَ الآبَ الّذي أهَّلَنا لشَرِكَةِ ميراثِ القِدّيسينَ في النّورِ"

كولوسّي 3: 17 "وكُلُّ ما عَمِلتُمْ بقَوْلٍ أو فِعلٍ، فاعمَلوا الكُلَّ باسمِ الرَّبِّ يَسوعَ ، شاكِرينَ اللهَ والآبَ بهِ ."

كولوسّي 4: 2 "واظِبوا علَى الصَّلاةِ ساهِرينَ فيها بالشُّكرِ"

تسالونيكي الأولَى 5: 18 "اشكُروا في كُلِّ شَيءٍ ، لأنَّ هذِهِ هي مَشيئَةُ اللهِ في المَسيحِ يَسوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ."

رؤيا يوحَنّا 7: 11-12 "وجميعُ المَلائكَةِ كانوا واقِفينَ حَوْلَ العَرشِ ، والشُّيوخِ والحَيَواناتِ الأربَعَةِ، وخَرّوا أمامَ العَرشِ علَى وُجوهِهِمْ وسَجَدوا للهِ قائلينَ: «آمينَ ! البَرَكَةُ والمَجدُ والحِكمَةُ والشُّكرُ والكَرامَةُ والقُدرَةُ والقوَّةُ لإلهِنا إلَى أبدِ الآبِدينَ. آمينَ!»."

3) خميس الامتنان… يوم نتذكّر فيه بركات الربّ: 

في عام 2015 ابتدأت في تطبيق فكرة "خميس الذكريات" وكنت أنشر في كل يوم خميس على وسائل التواصل الاجتماعي، صورة من أيام أو سنوات قد مضت عن أمر أو شخص كنت ممتنة له، مع فقرة توضيحية قصيرة. منحني هذا الفرصة للتعبير عن الشكر بشكل علني، وأيضاً جعل الامتنان  فعل واعي أقوم به في كل أسبوع. وساعد في جعل الشكر صفة مميزة لتفكيري بينما كنت أتأمل فيما سأقوم بنشره في كل أسبوع.

يمكنك إضافة لمستك الخاصة لهذه الفكرة أيضاً. ليس من الضروري أن تكون عبارة عن نشر صورة—ولا حتى نشر أي شيء على الإطلاق. بدلاً من ذلك، يمكنك الكتابة في مذكرتك، أو ببساطة جعلها جزء من روتينك في كل يوم خميس بأن تتأمل في ماضيك القريب والبعيد وتشكر الله على العطايا التي منحك إياها، سواء كانت مادية أو روحية.

4) عبر عن امتنانك للآخرين: 

في النهاية، نعلم أن 'كُلُّ عَطيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ مَوْهِبَةٍ تامَّةٍ هي مِنْ فوقُ، نازِلَةٌ مِنْ عِندِ أبي الأنوارِ، الّذي ليس عِندَهُ تغييرٌ ولا ظِلُّ دَوَرانٍ.' يَعقوبَ 1: 17، بمعنى أن الله هو المحور النهائي لشكرنا. ولكن من الجيد أيضاً أن نعبر عن شكرنا للآخرين في حياتنا، حتى مع اعترافنا بأن الله هو الذي سمح بتقاطع طرقهم مع طرقنا، سواء كان ذلك من خلال كتابة ملاحظة، أو إجراء مكالمة هاتفية، أو القيام بشيء ما ملموس كطريقة لقول كلمة "شكراً؛ أنا ممتن لك"، هناك العديد من الطرق للتعبير عن الشكر. كن مبدعاً، وابحث عن الفرص لتقديم هدية الامتنان.

يمتد عبر كل هذه الأمور موضوع الإنجيل. ذكرتُ سابقاً أنه مع فهمنا للإنجيل، يصبح من المستحيل ألا نكون شاكرين، ولكن من الجدير بالذكر أنه بدون الإنجيل، يصعب أن نكون شاكرين. حتى كمؤمنين، لا يزال الجسد يحارب الروح، ويدفع إلى الرؤية الضيقة {المنظور المحدود} للأنانية. فلا نتمكن من فهم صلاح الله وتحويل الفكر من هموم هذا العالم إلى البركات العديدة  التي نتمتع بها في المسيح إلا عندما نتبَع الروح.

أرجو وأصلي أن يُنمّي الروح فيكم عقلية ممتنّة بينما تتأملون في الإنجيل وكلمة الله، وبينما تعبرون عن امتنانكم للآخرين ولله ذاته.

كتب من قبل أوليفيا. ترجم من قبل سديم.  تعديل من قبل حنين باشا.

This post was first published in 2016. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2016. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.



Wednesday, October 22, 2025

القوة في سياقها الكتابي: دراسة أعمق في فيلبي 4: 13

من بين الأمور التي أعتبرها الأكثر قيمة في دراستي للتاريخ هو إدراكي لأهمية السياق. فقد أثّر هذا الفهم في طريقة تفكيري وتعاملي مع العالم من حولي، إذ وجدت أنّ غياب السياق يزيد من احتمالات سوء الفهم وسوء التواصل أضعافًا مضاعفة، سواء على المستوى الشخصي أو الأكاديمي أو الثقافي. وعندما يتعلّق الأمر بقراءة الكتاب المقدّس، فإنّ السياق ليس بأقل أهمية.

ومع ذلك في كثير من الأحيان، نقتطف آية كأنها زهرة أقحوان بينما نتجاهل حقل الزهور الذي تعيش فيه. نحن نقوم بتفسير آية لتعني معنى معين بدون فهم ما قد قيل قبلها أو بعدها. لك أن تتخيل الفوضى التي قد تنتج عندما يتنصت شخص ما لجملة واحدة من حوار مدته عشرين دقيقة و يصيغ رأي كامل عن المتحدث والموقف فقط اعتماداً على بيان خارج السياق. إذن، لماذا نفكر أنه باستطاعتنا عمل نفس الأمر مع النص الكتابي؟ إذا كنا نريد أن نتواصل مع كلمة الله بمسؤولية، علينا أن نهتم بقرائتها ضمن السياق وتفسيرها وتطبيقها وفقاً لذلك.  

منشور اليوم سيكون الأول ضمن سلسلة قصيرة هنا في (An Iris Awaits)، حيث سننظر بقرب أكثر لبعض آيات الكتاب المقدس التي عادةً يتم أخذها من النص بدون السياق وبالتالي يتم إساءة تفسيرها. وما من نقطة انطلاق أفضل من ربما الآية الأكثر شيوعاً التي تُجرّد من سياقها: فيلبي 4: 13. هي من أول الآيات التي يحفظها الأطفال، يتم إلصاقها على كل المنشورات الرياضية، وتُقال في اجتماعات الفرق، وتُهمس كترنيمة، ويُعتمد عليها كحافز في مواجهة ما يتطلب مجهود بدني، وأمور أخرى. أنتم تعرفون الآية: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني". 

عندما ننظر لهذه الآية بحد ذاتها، تبدو واضحة جداً. ما أعنيه أن "كل" تعني "كل"، أليس ذلك؟ حسناً، نعم ولا. أفكر أننا جميعاً نتفق أن الشخص الذي يرتكب الاحتيال، القتل، أو أي عدد آخر من الخطايا سيكون اقتباسه لهذه الآية لنفسه غير صحيح للتحفيز على فعل مثل هذه المخططات. إذن، إن لم يكن بولس يصدر بيان شامل عن إعطاء الله القوة لنا لفعل أي شيء نريده، إذن عما كان يتحدث؟ أي تخمينات حول كيفية اكتشاف ذلك؟ إذا قلتم، "أنظر إلى السياق!" إذن ستكونون على حق! من المهم أن نتذكر بأن بولس لم يصدر هذا البيان في فراغ. في الواقع، تأتي رسالة فيلبي 4: 13 في قلب مقطع يتحدث فيه بولس عن أمرين محدّدين: الامتنان للعطاء والرضا. 

وفي نهاية رسالته لأهل فيلبي، يبدأ هذا المقطع بتعبير بولس عن فرحه بالطريقة التي عبّر بها المؤمنون في فيلبي — وهم جزء من عائلة بولس في المسيح — عن محبتهم من خلال تلبية احتياجاته المادية. دعونا نلقي نظرة: 

"ثُمَّ إنّي فرِحتُ بالرَّبِّ جِدًّا لأنَّكُمُ الآنَ قد أزهَرَ أيضًا مَرَّةً اعتِناؤُكُمْ بي الّذي كنتُم تعتَنونَهُ، ولكن لم تكُنْ لكُمْ فُرصَةٌ. ليس أنّي أقولُ مِنْ جِهَةِ احتياجٍ، فإنّي قد تعَلَّمتُ أنْ أكونَ مُكتَفيًا بما أنا فيهِ. أعرِفُ أنْ أتَّضِعَ وأعرِفُ أيضًا أنْ أستَفضِلَ. في كُلِّ شَيءٍ وفي جميعِ الأشياءِ قد تدَرَّبتُ أنْ أشبَعَ وأنْ أجوعَ، وأنْ أستَفضِلَ وأنْ أنقُصَ. أستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ في المَسيحِ الّذي يُقَوّيني. غَيرَ أنَّكُمْ فعَلتُمْ حَسَنًا إذ اشتَرَكتُمْ في ضيقَتي. وأنتُمْ أيضًا تعلَمونَ أيُّها الفيلِبّيّونَ أنَّهُ في بَداءَةِ الإنجيلِ، لَمّا خرجتُ مِنْ مَكِدونيَّةَ، لم تُشارِكني كنيسَةٌ واحِدَةٌ في حِسابِ العَطاءِ والأخذِ إلّا أنتُمْ وحدَكُمْ. فإنَّكُمْ في تسالونيكي أيضًا أرسَلتُمْ إلَيَّ مَرَّةً ومَرَّتَينِ لحاجَتي. ليس أنّي أطلُبُ العَطيَّةَ، بل أطلُبُ الثَّمَرَ المُتَكاثِرَ لحِسابِكُمْ. ولكني قد استَوْفَيتُ كُلَّ شَيءٍ واستَفضَلتُ. قد امتَلأتُ إذ قَبِلتُ مِنْ أبَفرودِتُسَ الأشياءَ الّتي مِنْ عِندِكُمْ، نَسيمَ رائحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبيحَةً مَقبولَةً مَرضيَّةً عِندَ اللهِ. فيَملأُ إلهي كُلَّ احتياجِكُمْ بحَسَبِ غِناهُ في المَجدِ في المَسيحِ يَسوعَ. ولِلهِ وأبينا المَجدُ إلَى دَهرِ الدّاهِرينَ. آمينَ." (فيلبي 4: 10-20).

إذن بعد الإشارة للطريقة الأخيرة التي استخدم الله فيها أهل فيلبي لتوفير احتياجاته، ينظر بولس للوراء ويشارك من خبرة شخصية كيف استخدم الله كل أنواع المواقف لتعليمه كيف يكون راضياً "في كل شيء وفي جميع الأشياء". بغض النظر عما إذا كان قد واجه الاحتياج أو التمتع بالحصول على أكثر مما يحتاجه، قد تعلم أن يكون راضياً. وفي هذا السياق يشارك بولس: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني."  بكلمات أخرى، لقد كان قادراً  "أن يتضع" بالنعمة مثلما كان قادراً أن يستمتع بالوفرة بنفس السلوك بسبب قوة المسيح. 

الترجمة الدولية الجديدة في اللغة الانجليزية، ترجمة وظيفية وليست حرفية، تترجم الآية بهذه الطريقة (التي اعتقد أنها تعبر بشكل أفضل عن قصد بولس الأصلي): "أستطيع فعل كل هذا من خلاله الذي يعطيني القوة". والترجمة العربية المبسّطة تترجم هذه الآية بأسلوب واضح أيضاً: "أسْتَطِيعُ أنْ أُواجِهَ كُلَّ الظُّرُوفِ بِالمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي." عندما ننظر إلى فيلبي 4، نستطيع أن نرى أنه عندما  يقول "الكل"، هو يتحدث عن كل أنواع الظروف، ليس كل أنواع المهام، ليس كل أنواع المواقف، ليس كل أنواع المساعي. لقد كان قادراً أن يكون راضياً "في كل الأشياء" لأن المسيح أعطاه القوة لذلك—و أنا أعتقد أننا جميعاً نستطيع الموافقة على أن القناعة في أي ظرف وكل ظرف يتطلب قوة تفوق قوتنا. 

وبالطبع، نحن نعلم أن الله هو من يمنحنا القوة للقيام بعدد لا يُحصى من الأمور، حتى تلك التي قد تبدو صغيرة أو ذات غير أهمية في منظور الأبدية. فكل نَفَس نتنفسه، وكل قدرة على تحريك عضلة، وكل طاقة على التفكير والعقل، وكل ذرة من القوت الجسدي والروحي، جميعها تأتي منه. وعندما نفتقر إلى القوة في أي جانب من جوانب حياتنا، فمن الصواب أن نأتي إلى عرش نعمته ونسأله أن يمنحنا القوة. والنظر إلى رسالة فيلبي 4:13 في سياقها لا ينفي أياً من هذه الحقائق. 

ومع أن ما نملكه من قوة جسدية (كالقوة على الجري أو رفع الأثقال)، وقوة ذهنية (كالقدرة على اجتياز امتحان أو تعلّم لغة)، وقوة عاطفية (كالمحبة أو مقاومة الحسد والغضب)، كلّها نعم من الله، إلا أنّ هذه الأمور ليست هي محور رسالة فيلبي 4: 13. ففي هذه الآية، بولس يتكلم عن قوة عميقة داخلية التي من خلالها استطاع أن يعيش بقناعة برغم ظروفه. ومع أنه كان يتحدث عن تجربته الشخصية، إلا أن المبدأ الذي يطرحه، وهو أن قوة الله كافية لتمكين الإنسان بالقناعة والرضا، ينطبق علينا أيضاً. فمهما واجهنا من أفراح أو آلام، سواء كنا في شبع أو جوع، في ستر أو عوز، يمكننا أن نحيا في رضا في كل حال بفضل المسيح الذي يقوّينا. مجداً لله على هذه العطية الفائقة للطبيعة!


كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ليلى عطالله. تعديل من قبل حنين باشا.

.This post was first published in 2022. To see the original English version, click here

هذا المنشور تم نشره أولا في 2022. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Karla Forrest :المصدر
سمح بالنشر


Wednesday, September 24, 2025

العيش بسلام بينما نعيش بحرب ، الجزء 2

في المنشور السابق، شاركت التشجيع الذي وجدته بسفر دانيال بينما نعيش في وقت الحرب المدمرة في الشرق الأوسط. على الرغم من أن دانيال كان مثّقل في الأمور التي كشفها الله له عن كمية دمار هائلة سوف تحصل، حتى أصبح مريض بالجسد، إلا أنه تقوى بالله وتمكن من مواصلة مسؤولياته اليومية. استطاع أن ينعم بالسلام بالرغم من معرفته بالمعاناة الهائلة، بفضل نعمة الله التي أعطته قوة التحمل.

ولكن ماذا يعني أن تكون بالحقيقة في سلام؟ خلال هذه السلسلة من الحروب الطويلة الممتدة لعقود من الزمن والتي طالت الأراضي المقدسة، نحن نصلي لسلام عادل وليس فقط للحرب أن تنتهي، بل لتنتهِ بطريقة تكون فيه الظروف مناسبة للحرية وتكافؤ الفرص والازدهار الإنساني لجميع شعوب هذه المنطقة. وبينما كنت أقرأ كتاب يبدو أنه لا يمت للموضوع بصلة بضعة أسابيع سابقة، لفت نظري بشكل عميق جملة عن السلام.

في كتاب الأمومة التبشيرية (Missional Motherhood)، تقول الكاتبة غلوريا فيرمان (والتي تعيش بالشرق الأوسط):

"بالزمن الحالي، عندما تسمع آذاننا كلمة السلام، نفكر بغياب الصراع، ولكن كلمة سلام بالعبرية تشير إلى وجود الكمال والشمولية" (1). يا له من مفهوم مدهش. وبالفعل، وخلال الأسابيع الماضية منذ أن قرأت تلك العبارة لأول مرة، لفت الله انتباهي إلى الفكرة ذاتها من مصادر متعددة أخرى، ليؤكد لي أنها أمر يجدر بي أن أوليه اهتمام خاص.

غلوريا فورمان مُحقّة؛ فنحن عادةً نفكّر في السلام باعتباره نقيض الحرب، أو ربما حالة من الهدوء والسكينة، فمثلاً نقول: "يا لها من ليلة هادئة وسالمة." لكن ماذا لو نظرنا إلى "نقيض الحرب" أو "حالة الهدوء" على أنها في الحقيقة حالة من الكمال والشمولية؟ إن الأمر يبدو منطقياً عندما نتوقف قليلًا للتفكير فيه. فهذه الحرب قد صنعت عكس الكمال تماماً. لقد أدت إلى دمار كامل في البيوت والأراضي والبنية التحتية والمجتمعات والعائلات والأجساد والعقول. وعندما نقول إننا نصلّي من أجل السلام، ألسنا في الحقيقة نصلّي من أجل أن يُستعاد كمال كل هذه الأمور؟

(وبالطبع، هناك أشياء أخذتها هذه الحرب ولا يمكن أن تعود إلينا في هذه الحياة، مثل إخوتنا وأخواتنا الأحبّاء في الإيمان. لكننا نثق أنه بينما تحطّمت أجسادهم الأرضية، فإن أرواحهم حيّة ومزدهرة مع الرب، ونصلّي أن تُشفى القلوب المكسورة لأولئك الذين بقوا، بنعمة الله).

وعلى صعيد أعمق، هناك إحساس بأن نقيض الكمال ليس مجرد نتيجة للحرب، بل هو الحالة السابقة التي نشأ منها هذا الصراع الدموي الذي دام عقوداً. هناك أولئك الذين يسعون إلى الرضا في امتلاك الأرض، وأولئك الذين يسعون إلى ملء فجوة الحزن الهائلة من خلال الانتقام، وأولئك الذين تدفعهم احتياجاتهم الجسدية والقيود المفروضة عليهم إلى اليأس والعنف، وأولئك الذين يجدون هويتهم في كراهية "الآخر". في كل حالة، سواء أدركوا ذلك أم لا، يحاول الناس ملء فراغ في حياتهم. يحاولون جعل أنفسهم كاملين، ولكن لأنهم لا يفهمون طبيعة حاجتهم ومصدر الحل، ينتهي بهم الأمر إلى خلق سلام أقل بدلاً من تحقيقه.

في أيام يهوذا القديمة، الله وبخ قادة المملكة الجنوبية من خلال النبي إرميا: ”مِنَ النَّبِيِّ إِلَى الْكَاهِنِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِالْكَذِبِ. وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ، قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ. وَلاَ سَلاَمَ" (إرميا 8: 10 - 11). قادة اليهود الدينيين نظروا إلى الكسر الذي بالشعب وتجاهلوه كأنه لا شيء. ادّعوا الكمال بينما لم يوجد. يا له من خطأ كبير اقترفوه. في الحقيقة الشعب عبّر عن جرحه بترك الرب إلههم: "وَصَارَ لِهذَا الشَّعْبِ قَلْبٌ عَاصٍ وَمُتَمَرِّدٌ. عَصَوْا وَمَضَوْا. (..) أَنَّهُ وُجِدَ فِي شَعْبِي أَشْرَارٌ يَرْصُدُونَ كَمُنْحَنٍ مِنَ الْقَانِصِينَ، يَنْصِبُونَ أَشْرَاكًا يُمْسِكُونَ النَّاسَ. مِثْلَ قَفَصٍ مَلآنٍ طُيُورًا هكَذَا بُيُوتُهُمْ مَلآنَةٌ مَكْرًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ عَظُمُوا وَاسْتَغْنَوْا سَمِنُوا. لَمَعُوا. أَيْضًا تَجَاوَزُوا فِي أُمُورِ الشَّرِّ. لَمْ يَقْضُوا فِي الدَّعْوَى، دَعْوَى الْيَتِيمِ. وَقَدْ نَجَحُوا. وَبِحَقِّ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَقْضُوا. أَفَلأَجْلِ هذِهِ لاَ أُعَاقِبُ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَوَلاَ تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهذِهِ؟" (إرميا 5: 23، 26 - 28).

وقبل ذلك، أشار الرب لنفس الجرح في المملكة الشمالية لإسرائيل، من خلال النبي إشعياء: "أَرْجُلُهُمْ إِلَى الشَّرِّ تَجْرِي، وَتُسْرِعُ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ الزَّكِيِّ. أَفْكَارُهُمْ أَفْكَارُ إِثْمٍ. فِي طُرُقِهِمِ اغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ. طَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَيْسَ فِي مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ. جَعَلُوا لأَنْفُسِهِمْ سُبُلًا مُعْوَجَّةً. كُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِيهَا لاَ يَعْرِفُ سَلاَمًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ابْتَعَدَ الْحَقُّ عَنَّا، وَلَمْ يُدْرِكْنَا الْعَدْلُ. نَنْتَظِرُ نُورًا فَإِذَا ظَلاَمٌ. ضِيَاءً فَنَسِيرُ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ." (إشعياء 59: 7 - 9)

نحن نميل إلى الاعتقاد بأن العدالة يجب أن تسود حتى يسود السلام، ولكننا نرى من هذه الآيات أن العدالة والصلاح والنور غائبين عندما لا يكون السلام (أي الكمال) موجوداً. ولكن القدرة الأعظم للعدالة والحق موجودة بشخص واحد – شخص كامل. وهنا تكمن مشكلتنا. لأننا في الحقيقة عاجزون من دون المسيح. صحيح أننا نملك نعم كثيرة من الله مثل الحياة، الصحة، والقدرات، لكنها لا تكفي لنحقق الغاية من وجودنا، وهي أن نكون في علاقة صحيحة مع خالقنا ونمجّد اسمه في الأرض. هذا لا يحدث إلا إذا شُفيت جراحنا، واستبدلنا القلب القاسي بقلباً جديداً، وقبلنا المصالحة التي صارت ممكنة لنا من خلال حياة يسوع البارة، وموته على الصليب، وقيامته المنتصرة. بهذا تصبح خطايانا مغفورة وبر المسيح يمكن أن يُنسب إلينا.

وكما تكلم الروح القدس من خلال بولس: "أَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الملء وأن يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ." (كولوسي 1: 19 - 20). 

يسوع هو من صالحنا مع الرب. وفيما يتعلق بموضوع السلام، نرى أن المسيح لم يحل المشكلة بيننا وبين الرب فقط، بل بمعنى أعمق استرجع حالة الكمال بعلاقتنا مع الرب. لم تعد علاقتنا مشوهة بالتمرد والكبرياء والبر الذاتي. لم نعد مفصولين عن خالقنا القدوس بسبب خطيتنا. يسوع استبدل خرقنا (ملابسنا) الملوثة بثياب النقاء (أنظر إشعياء 64: 6، إشعياء 61: 10، كورنثوس الثانية 5: 21)، يسوع أخذ قلب الحجر وأعطانا قلب من لحم (حزقيال 36: 26)، يسوع أحيانا من الموت لحياة أفضل (يوحنا 5: 24، 10: 10)

يسوع أيضاً استرجع كمال علاقتنا المشوهة مع بعضنا البعض أيضاً. كما قال الروح القدس من خلال بولس: لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ. فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. (أفسس 2: 14 - 18).

بالتحديد نتكلم عن اليهود والأمم، يشرح بولس أن يسوع جعل من الممكن أن تُستعاد العلاقة المليئة بالكراهية بين هاتين الجماعتين بشكل كامل، بحيث لا يبقى فقط عدم عداوة، بل أيضاً لا يبقى انقسام. لم يعد هناك جماعتان منفصلتان، بل أصبحوا جسداً واحداً موحّداً، عائلة افتداها المسيح بدمه. وحده يسوع، بقوة الروح القدس، قادر أن يُحدث مثل هذا التغيير العميق لمجد الله الآب!

يجب علينا أن ندرك احتياجنا ونقبل الحل، لأنه إلى أن نقبل عطية السلام من الرب من خلال يسوع، سوف نظل نصنع ونعيش حروب. لكن عندما "يَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ" (كولوسي 3: 15) سوف نتوقف عن التصرف بدافع جراحنا وانكسارنا. وعندما نتمسك بالكمال الذي يمنحنا إياه، نتوقف عن محاولة كسب الممتلكات الأرضية لأنفسنا، ونتوقف عن ظلم من يقف في طريقنا، ونتوقف عن ردّ العنف ضد من يظلموننا. عندها سوف نسلك بالكمال مقدمين الغفران والرحمة للآخرين. عندها سوف نعيش بقوة الروح القدس – نعيش بسلام في وقت الحرب.

لا يمكنني أن أفكر بخاتمة أفضل من أن أترككم مع الصلاة التالية من تسالونيكي الثانية 3: 16 "وَرَبُّ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُعْطِيكُمُ السَّلاَمَ دَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الرَّبُّ مَعَ جَمِيعِكُمْ." آمين.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2024. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2024. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Rose Creger Tankard :المصدر
.سمح بالنشر

المرجع:

Gloria Furman, Missional Motherhood: The Everyday Ministry of Motherhood in the Grand Plan of God (Wheaton, Ill.: Crossway, 2016), 117.


Wednesday, August 20, 2025

العيش في سلام رغم الحرب: الجزء الأول

نُشر هذا المقال في الأصل بتاريخ 7 أكتوبر 2024.

يُصادف اليوم مرور سنة على اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل وسنة على تصاعد الأهوال التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. في نواحٍ كثيرة استمرت الحياة كالمعتاد حيث نعيش في الضفة الغربية، لكن في نواحٍ أخرى لم تكن الحياة طبيعية على الإطلاق. 

عندما أعدّ وجبة مشبعة ومغذية، أو أحتضن زوجي، أو أشاهد ابنتي وهي تلعب براحة، تتجه أفكاري نحو أولئك الذين بالكاد يجدون ما يأكلونه؛ والذين لا يعلمون إن كانوا سيحتضنون أحبّاءهم الأسرى يوماً ما؛ أو الأطفال الذين مرّوا بصدمات تفوق ما قد يختبره معظم الناس خلال حياتهم كاملةً. وبينما أنام في سرير دافئٍ في منزل سليم، أفكّر بأولئك الذين هُدمت بيوتهم أو قُصفت أو أصبحت غير صالحة للعيش، والذين يعيشون الآن في خيام، يحاولون النجاة وتوفير ما يسدّ احتياجهم، والخروج من هذه الحرب على قيد الحياة، وإن لم تعود الأمور كما كانت أبداً.

إن بشاعة طرق الموت التي نسمع عنها حتى عن بعض من نعرفهم والإصابات التي تغيّر حياة أصحابها إلى الأبد، والإذلال والإساءة والمستوى المعيشي الذي لا يُصدّق والذي يتحمّله هذا العدد الهائل من الناس كافية لتجعل صدري وحلقي يضيقان وتُغرق عينيّ بالدموع إذا ما فكّرت بها لوقتٍ كافٍ. نُصلّي أن يتوقف هذا العذاب، وأن تنتهي الحرب، وأن تزول أشكال القمع والعنف. ومع ذلك، فإن الصلاة بحد ذاتها قد تصبح مرهقة، لأنها تتطلب التفكير مراراً وتكراراً في هذه المآسي.

مع ازدياد ثقل هذا العبء خلال السنة الماضية، وجدتُ نفسي أصارع لأفهم كيف أعيش أيامي كتلميذة ليسوع وسط هذا الظلام. كيف أظلّ ثابتة في الصلاة حين يكون الحمل بهذا الثقل؟ كيف أُظهر صلاح الله لمجتمعنا بينما تبدو الظروف من حولنا بعيدة كل البعد عن الصلاح؟ كيف أُحبّ أعداءنا؟ كيف أُصلّي لأجل الذين يضطهدوننا؟ كيف أُجيب بلُطف على من يجهلون ماذا يحدث؟ كيف أعيش بسلام خلال فترة الحرب؟

إيجاد التوازن بين حمل الأسى على قبح الشر وبين الاستمتاع بجماليات ما زالت حاضرة في حياتنا بفضل النعمة هو رحلة يومية. فتبنّي موقف واحد فقط يبدو غير معقول؛ فلا أستطيع ببساطة أن أستمتع براحة حياتي وأغضّ الطرف عن المعاناة الهائلة القريبة منّي – جغرافياً وعاطفياً. وفي الوقت نفسه، لا أستطيع أن أقضي أيامي منحنية تحت وطأة الحزن والإحباط واليأس، رافضة أن أقبل البركات التي وُهبت لي أو أن أفرح بها. فكيف يبدو الأمر إذن حين أحمل كلا الأمرين معاً؟

كما حدث مرات عديدة من قبل، أظهر الله أمانته في توقيته المثالي، من خلال غنى كلمته، وحكمة أبنائه. 

في وقتٍ سابق من هذا العام، بدأنا بدراسة سفر دانيال في مجموعة الحياة التي نقودها أنا وزوجي في كنيستنا. وفي الشهر الماضي، وبينما كنتُ في ذروة صراعي الذي تحدّثتُ عنه، وصلنا إلى الإصحاحات ٧ إلى ٩ — وهي من أكثر الإصحاحات صعوبة وتعقيداً في الكتاب المقدّس. ومع ذلك، أشعر بامتنان عميق لأننا تشجعنا على الاستمرار في دراستها والتعمّق فيها في هذا الوقت بالتحديد. في منتصف هذه الإصحاحات الثلاثة، وفي نهاية الإصحاح الثامن، يوقف دانيال سرده للرؤيا بملاحظة حول تأثيرها عليه: "وَأَنَا دَانِيآلَ ضَعُفْتُ وَنَحَلْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ قُمْتُ وَبَاشَرْتُ أَعْمَالَ الْمَلِكِ، وَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا مِنَ الرُّؤْيَا وَلاَ فَاهِمَ." (دانيال ٨: ٢٧).

أنا أيضاً مرضت خلال الأسبوع الذي كنّا ندرس فيه هذا المقطع الكتابي، وكنا نمزح بأن هذه المعلومة كان لها نفس التأثير عليّ كما كان على دانيال. لكن لم يكن المرض الجسدي وحده هو ما جعلني أرى صلة بين دانيال وبيني.

كتب دانيال ل. أكين (Daniel L. Akin) تفسيراً لهذه الآيات، وكان لدى تفسيره تأثيراً عميقاً علي: «ما رآه دانيال واستوعبه أنهكه تماماً. لقد كان أمراً مرهقاً على المستوى الشخصي. [...] لقد دمرته تماماً الرؤيا في الإصحاح الثامن؛ كانت أثقل من أن يحتملها» (1). وبالمثل، فإن ما رأيته واستوعبته، ليس في رؤيا مستقبلية بل في واقع حاضر يبدو في أحيان كثيرة مرهقاً وأثقل مما أستطيع احتماله (ومع ذلك، لا يُقارن بما اختبره الآخرون بالفعل، ومعرفة ذلك مؤلم جداً).

لكن Akin يكمل قائلًا: "لقد تعزّى دانيال بحقيقة أن الله هو المتحكّم، وأن ملكوته سيأتي في النهاية (الجزء الثاني من الآية 25)، لكن معرفة أن العالم سيشهد كل هذا الشر، ومعاناة شعب الله قبل مجيء الملكوت، كان أمراً يفوق الاحتمال"(1).

وأنا أيضاً أجد عزائي في معرفة أن الله هو المتحكِّم، وأن ملكوته قد أتى جزئياً وسيأتي بالكامل في النهاية. لكنني، مثل دانيال، أجد أن رؤية هذا الكم من الشرّ في العالم، وهذا القدر من المعاناة التي يتحملها خلق الله والمخلصين بدمه، أمر يفوق التصوّر أحياناً.

ويُتابع التفسير قائلًا: "لقد مضى مرض دانيال. كانت نعمة الله كافية له. وبعد أن استعاد قوّته، نهض نبيّ الله وعاد إلى عمله كما اعتاد […] وقد أحسن سنكلير فيرغسون (Sinclair Ferguson) التعبير حين قال: "عاد إلى الواجبات التي دعاه الله إليها. لم يعتزل العالم خوفاً من الأيام الشريرة القادمة. ولم يسلك طريقاً معاكسا ليعيش في حماسة "عالية". بل قام بواجبه" (1). لقد جسّد دانيال هذه الثنائية: أن يشعر بالإنهاك من شدة المعاناة، ومع ذلك يواصل مسؤولياته اليومية بقوة من الله. حتى عندما لم يفهم، نهض وبدأ بالعمل.

يقتبس Akin مجدداً من Ferguson قائلا: "فكيف يجب أن نعيش إذاً؟ انشغل بأعمال الملك (الملك السماوي)؛ سِر في الطاعة؛ عِش في القداسة؛ طهِّر نفسك كما هو طاهر." ثم يختم Akin قائلا: "لقد أزعجت الرؤيا دانيال بشدة، ولم يستطيع فهمها. ومع ذلك، لم يسمح لها أن تشله. قام بعمله، ووثق في إلهه. لقد كان مثالاً لنا جميعاً"(1). وكم أنا ممتنة لهذا المثال.

كم يريحني أن أتذكر أن العيش في هذا التوتر ليس أمرا خاص بي وحدي، وأن أرى كيف تعامل نبي سار قبلي مع الحياة اليومية وهو مُدركٌ لمخاوفٍ مُرعبة. لا بأس أن أشعر بالإرهاق، ولا بأس ألا أفهم كل شيء. ولا بأس إن كانت هناك أيام يبدو فيها القيام بواجباتي المتنوعة أمر صعب في ظلّ هذا الشرّ العظيم لأن نعمة الله تكفي، وقوّته تَظهر في ضعفي (رسالة كورنثوس الثانية ١٢: ٩).

كما تقول غلوريا فورمان (Gloria Furman): "لأن المسيح اخترق قيود الموت المُدمّرة إلى حياة القيامة الأبدية، فإن المعاناة ليست نهاية قصّتنا"(2). ويمكنني أن أتمسك بهذه الحقيقة حتى وإن كانت المعاناة تُحيط بي حرفياً. يمكنني أن أستند على قوّته عندما لا أفهم، وحين أشعر بأنه مغلوب على أمري وأتذكر أنه قد وهب لي ولكل من يؤمن به ويتبعه حياةً وافرة.

لذا، وعلى الرغم من أنني لا أملك كل الأجوبة بعد، إلا أنني أشعر بسلام متجدد سلام مبني على ثقتي بأنني أستطيع الاعتماد على الله الروح ليقودني ويقويني وعلى الله الابن ليشفع من أجلي، وعلى الله الآب ليحتملني بصبر ويعاملني بنعمة بينما أسعى أن أعيش في طاعة لدعوتي: لأُعرِّف الناس عليه وأمجده في بيتي، وكنيستي، ومجتمعي، ومنطقتي، والعالم من حولي. وإلى أن يأتي اليوم الذي فيه يُبيد الله الشرّ نهائياً سأواصل المسير، وأُظهر محبته وأشارك البشارة السارة: أن رئيس السلام حيّ، ويعطي ما هو أفضل بكثير مما يمكن لهذا العالم أن يعطي.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميار مسلّم.  تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2024. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2024. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Bobbie Roberts Kyle :المصدر
.سمح بالنشر

مصادر الاقتباسات: 

1. Daniel L. Akin, Christ-centered Exposition: Exalting Jesus in Daniel (Nashville: Holman Reference, 2017),104-105.
2. Gloria Furman, Missional Motherhood: The Everyday Ministry of Motherhood in the Grand Plan of God (Wheaton, Ill.: Crossway, 2016), 131.

Wednesday, July 23, 2025

الثقة بالله عندما تبدو الطاعة أنها تزيد الأمور سوءاً

العديد من الناس على علم بما حدث في سفر خروج عندما حرر الله شعب إسرائيل من العبودية في مصر، لكن غالباً ما تقتصر الرواية على العناوين العريضة، فنقفز من مشهد العليقة المشتعلة إلى الضربات، ثم إلى شق البحر الأحمر. لذا، لنتوقف ونتأمل بعمق في تسلسل الأحداث…

بعدما قتل موسى الرجل المصري وهرب للبرية، التقى بالله عند العليقة المشتعلة وتلقى أمر العودة إلى مصر ومواجهة فرعون والمطالبة بإطلاق سراح بني إسرائيل من عبوديتهم التي استمرت 400 عام. أطاع موسى أمر الله، ولكن بعد أن جادله في شأن عدم كفاءته لهذا الدور البارز، ثم جمع عائلته وانطلق عائداً إلى مصر.

الحدث المحوري التالي البارز الذي ننتقل له في القصة هو الضربات التي أرسلها الله على المصريين عندما قام فرعون أكثر من مرة برفض سماع أوامر الله كما نقلها له موسى وأخوه هارون (كما كان متوقعاً إذ أن الله أنذر موسى مسبقاً بأن هذا سيحدث). وفي نهاية المطاف، وبعد الفصح الذي وفّر فيه الله وسيلة خلاص لبني إسرائيل من ملاك الموت الذي قضى على كل بكر من الذكور، سمح فرعون أخيراً للإسرائيليين بالخروج. لكن ذلك لم يتم دون أن يتراجع مجدداً عن قراره، فلاحقهم حتى البحر الأحمر، حيث شقّ الله البحر ليعبر بنو إسرائيل بأمان، ثم أغرق جيش فرعون في المياه.

ولكن ما بين العليقة المحترقة والضربات هناك الإصحاح الخامس من خروج، والذي يحوي درس مهم إذا ما توقفنا عنده وقت كافي للتمعن. كان موسى وأخوه هارون في زيارتهم لفرعون ليطلبوا إذن للإسرائيليين ليذهبوا للبرية ليقدموا الذبائح للرب. في ذلك الوقت، كان فرعون يُكلِّف بني إسرائيل بمهمة شاقة للغاية وهي صناعة اللِّبْن من التِبْن الذي كان يُوفَّر لهم (صناعة الطوب من القش، بحيث أن المصريين كانوا يوفرون القش للإسرائيليين). قد رأى فرعون أن طلب الإخوة هو حيلة تهدف إلى إعفاء عبيده من الأعمال المجبرين عليها لعدة أيام. ورداً على ذلك، لم يرفض فرعون الطلب فحسب، بل أمر بأن يُجبَر بنو إسرائيل على جمع التِبْن بأنفسهم، مع إبقاء نفس الكمية اليومية من اللِّبْن.

الإسرائيليين كانوا غاضبين وقد صبوا جام غضبهم على موسى وهارون: "فَقَالُوا لَهُمَا: «يَنْظُرُ الرَّبُّ إِلَيْكُمَا وَيَقْضِي، لأَنَّكُمَا أَنْتَنْتُمَا رَائِحَتَنَا فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ وَفِي عُيُونِ عَبِيدِهِ حَتَّى تُعْطِيَا سَيْفًا فِي أَيْدِيهِمْ لِيَقْتُلُونَا»." (خروج 5: 21). كان قد عاد موسى ليطلق شعبه وبدلاً من ذلك وجد أن تصرفاته –التي كانت طاعة لله– قد جلبت له صعوبات أعظم. كيف يمكن أن يعقل ذلك؟ الطاعة يجب أن تجلب البركة، أليس ذلك؟

لقد فعل موسى ما يمكن لأي شخص أن يفعله في هذا الموقف. لقد عمل ما طلب الله منه، والآن الناس الذين كان يحاول مساعدتهم انقلبوا عليه لذا "رَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، لِمَاذَا أَسَأْتَ إِلَى هذَا الشَّعْبِ؟ لِمَاذَا أَرْسَلْتَنِي؟ فَإِنَّهُ مُنْذُ دَخَلْتُ إِلَى فِرْعَوْنَ لأَتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ، أَسَاءَ إِلَى هذَا الشَّعْبِ. وَأَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ»." (خر 5: 22-23).لا أعلم عنك ولكن بالنسبة لي هذا بالضبط ما يمكنني قوله إذا فعلت ما طلبه مني الرب ووجدت أن له تأثير عكسي لما توقعته.

اليوم، لدينا ميزة أننا نعرف ما حدث بعد ذلك، ونعلم كيف وفى الله بوعده وخلّص بني إسرائيل من العبودية. لكن من المهم ألا نقفز مباشرة إلى نهاية القصة، بل أن نتأمل في نهاية الإصحاح الخامس. لقد أطاع موسى، وتحمل مخاطرة كبيرة، ومرّ باضطرابات هائلة ليقوم بما أمره الله به. ومع ذلك، وجد نفسه أمام واقع لا يشبه أبداً ما وعده الله به. لم يكن هناك خلاص، بل ازداد الظلم سوءاً. كان من السهل عليه في تلك اللحظة أن يستسلم، وأن يدير ظهره لله، ويقول: "لا جدوى من الاستمرار، من الواضح أنني كنت مخطئ في ظني أن الأمور ستتحسن." لكن موسى، حين حمل شكوكه وإحباطه إلى الله، أبقى قلبه مفتوحاً ليسمع إجابة.

بعدما واجه موسى الرب قائلاً " أَنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ" (خر 5: 23)، جاء ردّ الله بكلمة لافتة: "الآن". "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «الآنَ تَنْظُرُ مَا أَنَا أَفْعَلُ بِفِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ يُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَوِيَّةٍ يَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ» (خر 6: 1). لم يكن الأمر أن الله قد أخلف وعده، بل إن عمله لم يكن قد اكتمل بعد. 

عندما ظهر الله لموسى في العليقة المشتعلة (خروج 3)، أخبره أن فرعون لن يسمح بخروج الشعب في البداية. وأثناء الطريق إلى مصر (خروج 4)، أنذره الله بالضربة الأخيرة وهي موت بكر فرعون. لكن الله لم يحدد توقيت حدوث هذه الأمور. لم يعطِ الرب وعد بأن الأمور لن تزداد سوءاً قبل أن تتحسن، وكان على موسى أن يثق بأن ما أعلنه الله سيحدث.

الرب برحمته التقى مع موسى عند نقطة الشك وذكّره بعلاقته الطويلة مع الشعب بدءاً من إبراهيم وإسحق ويعقوب. تكلم الرب مع موسى بصيغة الماضي "وَأَنَا ظَهَرْتُ .."، "أَقَمْتُ مَعَهُمْ عَهْدِي .." وبصيغة الحاضر "أَنَا الرَّبُّ .." وبصيغة المستقبل "وَأَنَا أُخْرِجُكُمْ .." و"أُنْقِذُكُمْ .." و"أُخَلِّصُكُمْ .." مؤكداً له عظمة قدرته وأمانته عبر العصور، ومبيناً له أنه حلقة صغيرة ضمن قصة كبرى تحكي علاقة الله بالإنسان (خروج6 :2-8). مع هذا التذكير عزّز الرب إيمان موسى، فاختار أن يستمر في السير بطاعة لله، رغم أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بكلامه (خروج 6: 9). ومع ذلك، اختار أن يثق بالله ويأخذ كلامه على محمل الجد.

من خلال ما جاء في تيموثاوس الثانية 3: 16، نعلم أن "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ نَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ". لا يسعني إلا أن أعتقد أن الأهداف من إدراج الإصحاحين الخامس والسادس من سفر الخروج هم مساعدتنا على النمو في الإيمان، تذكيرنا بأمانة الله في وعوده، وتشجيعنا عندما تبدو الأمور وكأنها تزداد سوءاً بعد الطاعة. خطة الله لا يمكن أن تفشل. وأمانته لا تتزعزع. دورنا أن نبقى ثابتين في الطاعة، مهما كانت العواقب، لكي نعكس صلاح الله، ومجده، وصدق وعوده أمام العالم.

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ميس سلفيتي. تعديل من قبل حنين باشا.

.This post was first published in 2021. To see the original English version, click here

هذا المنشور تم نشره أولا في 2021. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.

 Leila Coblentz :المصدر  
.سمح بالنشر

Wednesday, June 18, 2025

قلب سعيد

عندما كنت طفلة، كانت هناك خدمة تُدعى Life Action تأتي إلى كنيستنا عدة مرات لتنظيم فعاليات كنسية تمتد لأسبوع كامل. وفي إحدى المرات على الأقل، تم تمديد زيارتهم لأن الله كان يعمل بقوة في وسطنا. في الواقع، من خلال خدمة Life Action تعرّف والداي على الرب بشكل شخصي، وبعد إيمانهما، تعرفت أنا أيضاً على يسوع المسيح وتبعته.

خلال الجلسات المسائية، كان الكبار يحضرون عظات، أما نحن الأطفال فكنا نحصل على دروس ونشاطات خاصة بنا. خلال ذلك الوقت تعلمت تعريف الطاعة بطريقة موسيقية مع حركات بالأيدي، ولذلك مازلت أتذكرها حتى اليوم: "الطاعة هي أن تفعل ما طُلب منك فعله، حين يُطلب منك، بقلب سعيد." إحذف أي جزء من هذه الجملة، ولن يكون لديك طاعة حقيقية.

معظمنا من أطفال التسعينات كنا نعرف أنه إذا طَلب منا أهلنا فعل شيء و لم نفعله، فإذن نحن غير طائعين. لكن الجزء التالي من العبارة كان غير مريح بعض الشيء. إذا قلنا أننا سنفعل الشيء و نوينا فعله، لكن قررنا أن نفعله لاحقاً، بعد أن نكون قد انتهينا من عمل ما كنا منشغلين به في تلك اللحظة، فهذا يُعتبر طاعة غير حقيقية. بكلمات أخرى، الطاعة المتأخرة هي عصيان. أتذكر بعد تعلم ذلك الدرس أنني حاولت تغيير سلوكي من التأجيل إلى الطاعة في الحال أو ببساطة أطلب: "هل بإمكاني أن انتهي من هذا الفصل من الكتاب (أو الأغنية) أولا؟" (لأنه بصراحة، كنت عادةً أقضي وقتي إما بالقراءة أو عزف البيانو عندما كنت اتلقى تعليمات أهلي). في معظم الوقت كان الجواب "نعم"، لكن عندما كان الجواب "لا"، كان لدي الخيار إما أن أتحدى أهلي بعدم الطاعة من خلال التأجيل بكل الأحوال أو التوقف عن ما كنت أفعل وأطيع. اتخاذ الخيار الصحيح لم يكن دائماً سهلا، لكن هذا ما كنت مدعوة لفعله كــوني  ابنة اتبعت يسوع – أن أكرم أبي و أمي. 

ومع أن هذا الجزء كان صعباً، إلا أنه لا يُقارن بصعوبة الجزء الأخير: "بقلب فرح".

صحيح أنني قد أنجح في "فعل ما طُلب مني وقتما طُلب مني"، لكن هل كنت أفعل ذلك بسعادة؟ أم كنت أتذمر في داخلي – أو حتى علناً – لأنني اضطررت إلى التوقف عن هوايتي الممتعة لأفرغ غسالة الصحون أو لأصعد لأجلب شيئًا لأمي؟ الحقيقة المُحرجة هي أنه إذا كنت أفعل المطلوب فقط من دون فرح، فأنا لست طائعة حقاً.

حسناً، ربما تفكر، لكن ما علاقة هذا بي، كشخص ناضج؟ فعلياً،  إنه متعلق بكل شيء. لأننا، مثلما يُطلب من الأطفال طاعة واحترام والديهم الأرضيين، يُطلب منا نحن، أبناء الله من كل الأعمار، أن نُطيعه ونُكرمه. وتعريف الطاعة بالنسبة لنا هو نفسه:

"الطاعة هي أن نفعل ما طُلب منا، وقتما طُلب، بقلب سعيد."


هل كنت تعلم أن الكتاب المقدس فعلياً يتحدث عن القلب عندما يكون الموضوع عن الطاعة؟ اقرأ هذه الكلمات من رومية 6: 16-18، و انظر إن كنت تجدها: 

"ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدا للطاعة، أنتم عبيد للذي تطيعونه: إما للخطية للموت أو للطاعة للبر؟ فشكرا لله، أنكم كنتم عبيدا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها. وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدا للبر."

هل لاحظت ذلك؟ "أطعتم من القلب" أي طاعة حقيقية. لكن كيف استطاع مستقبلو رسالة بولس أن يكونوا مطيعين من القلب؟ وكيف نستطيع نحن أن نفعل دائماً ما يقوله الله لنا بقلب سعيد؟ قد أضحي بوقتي، أو أخوض محادثة صعبة، أو أذهب حيث يدعوني الله، لكن هل أنا سعيد بذلك؟ أو أنني اتذمر داخلياً – أو خارجياً أنه علي إيقاف نشاطاتي المريحة والممتعة للقيام بما طلبه الله مني؟

لا أعلم عنك، لكنني أعيش صراع مستمر بين طبيعتي البشرية (الإنسان العتيق) وطبيعتي الجديدة. ومع ذلك، فحقيقة وجود هذا الصراع تُشجعنا. لأنها تعني أن قلبنا الحجري قد استُبدل بقلب جديد (انظر حزقيال 36: 26). قبل التعرف على يسوع، قلبنا غير قادر على الطاعة بسعادة. من الممكن أن نقوم بعمل المطلوب منا بالأفعال، لكن لن نستطيع أن نكون حقاً مطيعين لأن قلوبنا تتجه نحو الأنانية و البر الذاتي. لكن عندما نستسلم للمسيح، يُعطينا قلب جديد، ومن خلال هذا القلب الجديد نستطيع أن نطيعه طاعة حقيقية. نستطيع أن نقول بصدق مع داود: "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت، وشريعتك في وسط أحشائي" (المزمور 40: 8).

الله لا يطلب منا فقط الطاعة الكاملة. بل ويعطينا بلطفه الأدوات الضرورية للطاعة. هو حرفياً يغير قلبنا ويضع روحه فينا، يجعل من الممكن لنا أن نكون مطيعين حقاً. من خلال قلبنا الجديد، الذي يسكنه الروح القدس، لدينا قوة ساكنة داخلنا قادرة أن تهزم جسدنا المزعج، المتذمر، المماطل وتعطينا القدرة لاختيار الطاعة بعزم وسرور عندما يُطلب منا أمر. إذاً دعونا لا نتجاهل أو نحاول إخماد هذه القوة. فلنقدّر هذا العطية التي صارت ممكنة بحياة يسوع الكاملة، وموته البدلي، وقيامته المنتصرة. قد أُعتقنا من عبودية الخطيئة، فلنبدأ بطاعة الله طاعة كاملة، بقلب سعيد. 

كتب من قبل أوليفيا باشا. ترجم من قبل ليلى عطالله. تعديل من قبل حنين باشا.


This post was first published in 2023. To see the original English version, click here.

هذا المنشور تم نشره أولا في 2023. لرؤية النسخة الإنجليزية الأصلية إضغط هنا.


Eric Eanes :المصدر
سمح بالنشر